يوجد في سوس وليس في الصين.. سور تارودانت العـظيـم
الأربعاء 01 ماي 2013 - 11:55
للصين سورها العظيم، ولأهل سوس أيضا
سورهم، الأول ضمن لنفسه مكانا في لائحة عجائب الدنيا
السبع مخلدا إلى جانب عجائب أخرى.. فيما الثاني الموجود
في تارودانت مازال يواصل معركة تحدي الزمان والمكان. سور
تارودانت العظيم المنيع هو أيضا سور يحمي أصالة المدينة
وهوية أهلها.هنا في قلب سوس لن تجد رفيقا مخلصا يسير معك على امتداد المدينة غيره، يمنحك أسراره وعبق المدينة ويطل عليك من أبراجه مثل أم تحمي أبناءها بحرص شديد، من أي مكان دخلت تارودانت ستجده هناك في وظيفته القديمة صارما ومتسامحا، منيعا وسهل الولوج، يحرس المدينة من الغزاة والبغاة، ويحمي الحدود من الاسمنت البليد. سور تارودانت سيرة تختزل قصة سوس العذراء، إنها سيرة سور تارودانت العظيم.
سيرة سور سوس العظيم
يبلغ سمك سور الصين العظيم ما بين أربعة أمتار إلى تسعة أمتار في قاعدته، ويتراوح علوه بين 3 و8 أمتار، لكن سور تارودانت يبلغ سمكه سبعة أمتار ويرتفع إلى ما يزيد على سبعة أخرى. من يصدق أن بالمغرب سورا عظيما يتفوق على سور الصين العظيم، هو أقدم سور في المغرب، ورغم أنه لا يوجد تاريخ محدد لبداية بنائه بسبب ندرة المصادر التاريخية وتخلف البحث الأركيولوجي، لكن ابن خلدون والناصري واليفراني يجمعون على هذه الحقيقة، نحن إذن أمام أقدم أسوار المغرب.
قبل الفتح الإسلامي كانت تارودانت حاضرة أمازيغية، جاهد المسلمون لاقتحامها لأنهم يعلمون أنهم إذا فتحوها أذعنت لهم كل المنطقة، كل القبائل عندما سمعت بفتح تارودانت جاءت مستسلمة للفاتحين المسلمين على اعتبار أن اقتحام سور المدينة معجزة لا يمكن أن يأتيها «إلا من كانت ترعاه القدرة الإلهية». أول كرامات السور العظيم ستظهر في العصر المرابطي، حيث يروي سكان تارودانت قصة ولي المدينة وقطبها الرباني ابن وندلوس المعروف بالشيخ سيدي وسيدي، الذي سجنه والده لأنه كان يرى أن شرب عصير قصب السكر حرام، فأهرق خوابيه وسالت وديان من عصير القصب في أزقة المدينة، وسجن سيدي وسيدي في «بنيقة» مازالت شاهدة إلى اليوم، أما الولد فقد كان يقول سأخرج عندما ينهدم جزء من سور المدينة، وبالفعل سيسقط جانب من السور العظيم ويخرج ابن وندلوس من سجنه، وهي أسطورة يتناقلها أهل المدينة عن شيخهم الذي يعتبرونه «مول البلاد»، وفي ذلك أيضا دلالة على قدم السور، أي وجوده قبل المرابطين بفترة، مما جعله يهترئ ويتآكل، حتى سقط الجزء الذي خرج منه الولي الصالح.
في عصر السعديين سيجدد السور وسيتم ترميمه بإحكام لأنهم سيتخذون من تارودانت عاصمة لهم قبل مراكش، وفي عهد العلويين سيظهر الدور التاريخي للسور بشكل واضح، فكلما تولى أمير شؤون تارودانت حتى استقوى بأهلها وسورها، وهي قصة أخرى ترويها المصادر التاريخية، إذ سيقوم محمد العالم ابن المولى إسماعيل بتعيين نفسه خليفة، وأقام بلاطا سلطانيا بعدما تمرد على أبيه. حوصرت المدينة من طرف المولى إسماعيل بقيادة ابنه المولى زيدان لمدة ثلاث سنوات، دون أن يقدر الجيش الخرافي على اقتحامها، بل إن المولى زيدان بعد طول الحصار قام ببناء القصبة الزيدانية لأنه لم يعد يطيق البقاء في خيام الحرب، وأقام بها، وهي اليوم جزء من مدينة تارودانت، ولم يستطع أحد دخول المدينة إلا بعد أن تم كشف الخليفة محمد العالم متخفيا يتجول في الزيدانية يستقصي أخبار العدو.
مدينة لا تقتحم
يقول نور الدين صادق، الباحث في تاريخ المنطقة، إن هندسة الأسوار عنصر أساسي من أسطورة السور، فسمكه لا يضاهيه أي سور آخر في جميع أنحاء المغرب، ذلك أنه يتكون في الأصل من ثلاثة جدران متراكبة. كل جدار كان يؤدي دورا مختلفا، ويستطرد المؤرخ الروداني: «الجدار الأول هو جدار دفاعي يصل علوه إلى سبعة أمتار، ويتراوح سمكه ما بين ثمانين وتسعين سنتيمترا، يليه مباشرة جدار ثان يتراوح سمكه ما بين مترين وثلاثة أمتار يسمى ممر الحراسة، وكان ممرا تتجول فيه كتائب الحراسة ليراقبوا ما يحدث خارج السور». من داخل المدينة تتبدى لنا أجزاء مهدمة من الجدار الثالث، وهو أكثر سمكا وأقل ارتفاعا يرتفع إلى نصف ممر الحراسة، ويصل اتساعه إلى ثلاثة أمتار، إذن نحن أمام سور بسمك يصل إلى سبعة أمتار على طول امتداده المحيط بالمدينة إحاطة تامة شاملة.
«الممر الثالث يسمى ممر الدورية، كانت تمر منه دوريات من الخيالة يراقبون الحراس ومدى يقظتهم واستعدادهم. إذا جمعنا هذه العناصر يبدو الحفر في السور أمرا خياليا، واقتحام سور تارودانت العظيم ضربا من ضروب المستحيل»، حسب المؤرخ الروداني.
وبعيدا عن المعطيات التاريخية، يحكي أعضاء من جمعية «أمودو» التي جعلت من حماية التراث أحد اهتماماتها، أن أشغال الترميم التي حدثت في السنوات الأخيرة عانت كثيرا من قوة وصلابة السور، الشيء نفسه يؤكده لحسن، أحد سكان تارودانت المقيمين بالقرب من باب البلاليع، إذ يقول: «الجرافات كانت تمضي أياما وهي تحاول فتح الأبواب الجديدة».
طول السور يصل إلى ما يقارب ثمانية كيلومترات (7.8 كيلومترات). داخل الأسوار توجد المدينة التي تصطبغ بلون التراب، وكل محاولات التوسع العمراني خارج السور يقابلها رفض ضمني وتضامني من طرف السكان.
عندما تتجول خارج الأسوار لا تحس بالحياة المتحركة داخلها. خارج السور هناك تجزئات سكنية ومدينة حديثة لكنها شبه فارغة.. تمر سيدة تمتطي دراجة بمحاذاة السور وتقتحم باب «الزركان». يخبرنا عامل الفندق بأن أسعار العقار داخل السور أكثر ارتفاعا بكثير من المناطق الجديدة. هل بسبب أجانب يقتنون الرياضات والمنازل القديمة؟ يجيب عامل الفندق: «لا، السكان يريدون البقاء داخل المدينة».
تخترق السور خمسة أبواب رئيسية وهي الأبواب التاريخية لتارودانت؛ باب السلسلة وهو الباب السلطاني ويسميه أهل المدينة بـ«باب السدرة»، منه كانت تدخل المواكب لقربه من القصبة. الباب السلطاني مازال يحظى باحترام خاص لدى السكان.. إنه باب تلفه سطوة الأمير.. ثم باب أولاد بونونة وباب تارغونت وباب الزركان وباب الخميس.
يعود نور الدين صادق ليخبرنا بالمزيد من الأسرار ويقول: «كلها أبواب ذات التواء، هذا الالتواء يكون بسيطا في بعضها ومعقدا في البعض الآخر، والسبب هو وظيفة الباب ودوره، وعموما الأبواب الموزعة على السور كانت تلعب ثلاث وظائف، أهمها الوظيفة العسكرية الدفاعية»، هذه الوظيفة تشتغل بوجود كثرة الالتواءات وتعدد الساحات، حيث لا يمكن الدخول إلى المدينة مباشرة، فبعد الباب الأول تجد ممرا مغطى تخرج منه إلى ساحة أولى، وفي أغلب الأحيان يكون عليك أن تتجه إلى اليسار لتجد بابا ثانيا في هذه الساحة، يحيلك على ساحة ثانية لتلج من الباب الأخير إلى المدينة.
سبعة أقواس توجد بالباب الواحد نظرا لما يفضي إليه الباب من مرافق حساسة، وبمجرد ما يكون هناك غزو أو غارة تغلق الأبواب الخلفية قبل الأبواب الأمامية، فإذا تم إغلاق الأبواب كاملة تحصنت المدينة، أما إذا كان الهجوم مباغتا فإن الغزاة يدخلون إلى الساحة الأولى، وبعد ذلك يشرف الحراس على الساحة من أعلى السور فيسقط المهاجمون في فخ، ويجدون أنفسهم بين بابين، ويتم قصفهم من الأعلى، تلك هي المصيدة الهندسية التي حفظت المدينة.
الوظيفة الثانية للأبواب هي الدور الجبائي، فتارودانت كانت أولى المحطات على الطريق التجاري للقوافل القادمة من بلاد السودان، وكانت لهذا الطريق علاقة بالسعديين الذين ارتبطت المدينة تاريخيا بحكمهم، فتحويل الطرق التجارية إلى تارودانت جعل أبواب المدينة تسهل استخلاص الواجبات المخزنية، وكان يتم إدخال القوافل أفواجا فيحصي معها موظفو الديوان ما تستحقه الدولة ويستخلصونه قبل ولوج القوافل المدينة.
كما تلعب الأبواب دورا ثالثا هو الدور الأمني، فتعدد الساحات قبل الدخول الفعلي إلى المدينة، وكثرة التعرجات تجعل كل من دخل إلى المدينة أو خرج منها مراقبا ويسهل تحديده، كانت هذه هي استخبارات تارودانت التي ساهم فيها السور.
اليوم هذه الأبواب تقف شاهدة على مجد غابر، ويسودها تباين كبير ما بين أبواب تمت العناية بها لتتحول إلى متاحف وأخرى تقف أمامها العربات والحافلات والباعة المتجولون.
إلى وقت قريب كان بالإمكان القيام بجولة ليس من خارج السور أو عبر محيطه لكن من فوق السور، كان بإمكانك أن تقوم بجولة حول المدينة بأكملها، فممر الحراسة الذي يصل اتساعه إلى ثلاثة أمتار، كان يمكن أن تسير فيه عربة «الكوتشي» التي تشتهر بها المدينة، هذا الممر تردى بشكل كبير الآن، وسقطت أجزاء كبيرة منه، لكن لم ينتبه إليه ولم يحظ بالعناية نفسها التي حظي بها الجدار الخارجي والدفاعي، وهذا يهدد السور بصفة عامة.
ما يفوق مائة وثلاثين برجا تتخلل السور العظيم، فقد كانت مكانا لتجمع الرماة والحراس تملؤها الثقوب الصغيرة والفتحات المستطيلة، كانت تمكن من إخراج فوهات البنادق والاحتماء، وسمك السور يناسب حجم الأبراج العملاقة، فيصل سمك السور عند الأبراج إلى 11 مترا، خصوصا في الأبراج التي تكون في الزوايا، و10 أمتار في الأبراج التي تنتشر على خط مستقيم محيط بالمدينة. الأبراج هي أيضا مكان للسمر والمحادثات الليلية بين الحراس.. الاهتمام بهندسة الأبراج يعكس مدى إغراء المدينة وغناها وثروتها الكبيرة، لذلك فإن الخوف على المدينة مازال سمة مميزة للرودانيين.
خطر الإسمنت
بني السور العظيم بالتراب المخلوط بالجير الذي يمنحه صلابة ويجعله مانعا لتسرب المياه، وهذه المواد تخلط بالحصى. الحقيقة التي وردت على لسان سكان المدينة هي أن هذه الأسوار لا تتوفر على أساس، بل تتماسك من تراكب الجدران الثلاثة، فتكتسب متانتها ومناعتها، واليوم زال الجدار الثالث ولم يبق منه إلا بعض الشواهد في «باب ترغونت» أو «باب بونونة»، كما زال الجدار الثاني أيضا في بعض المناطق، وتردت حالته بفعل الأمطار وعدم الصيانة. هذا الجدار كانت تعلوه طبقة سميكة من «تادلاكت»، والمعروف أن «تادلاكت» مادة لا تسمح بتسرب المياه. هذه الطريقة كانت تجعل المياه تتسرب عبر قنوات، وهكذا لا يتراكم الماء فوق الممر، لكن تآكل هذه الطبقة عبر السنين الطويلة، جعل الأمطار تؤثر في السور، ويتهدم تبعا لذلك جزء هام منه، وقد أزالت بعض الترميمات الأخيرة جزءا من الممر، وهذا أيضا يشكل خطرا على السور.
تحيط بالمدينة طرق حديثة وشوارع واسعة، وتتنقل عبرها وسائل النقل. هذه الحركة والاهتزازات تهدد السور وتمس أساساته، بل إن الإصلاحات الأخيرة التي عرفها السور كانت تنقصها الاستعانة بمؤرخ أو خبير في الآثار، وشابتها بعض الأخطاء، وكان يتم دهن السور بعد ترميمه بـ«تادلاكت»، وهكذا يتعارض هنا المظهر الجمالي مع المظهر التاريخي الأصيل للسور، فالسواد وبعض مظاهر الرطوبة، والثقوب التي تتخلل السور هي بمثابة شواهد ورسائل مسافرة في التاريخ. معلومات كثيرة مازالت تلك الثقوب تحفظها، والأبراج المرممة قادرة على قول ما لم تقله المصادر التاريخية.
من الأخطاء الرهيبة إزالة ممر الحراسة الذي يشد عضد السور، وهو ما يمكن أن يجعل أجزاء هامة من السور تنهار بفعل عوامل المناخ المتراوح بين سيول مطرية وحرارة مرتفعة، كما أن فتح أبواب جديدة، بعدما أصبحت الأبواب الخمسة غير كافية، لم تراع فيه جمالية السور ولا تاريخه ولا الترتيب الذي وضع أصلا للأبواب.
والشمس تشرف على الاختفاء في الأفق، تتحرك قوافل حول سور تارودانت، ليست قوافل التجار القادمين من السودان هذه المرة، بل قوافل من السياح على دراجات هوائية يدورون حول حصون المدينة، يلتقطون صورا لأبراجها ولنخيلها. يقفون باحترام كبير أمام أبواب المدينة، ويتحاورون مع سور سوس العظيم.
سور لا يقبل الخطأ أو النسيان
في فترات بناء الأسوار بلغ حرص سلطات المدينة على حصانتها أن المسؤولين عن بناء السور كانوا يقومون باختبار السور بتعريضه للمياه التي كانت تجلب من السواقي الكثيرة للمدينة طيلة الليل، إن هو صمد يبقى، وإن انهدم يعاد بناؤه. المتهاونون من البنائين والعبيد والسجناء كان يرمى بهم وبناء السور فوقهم، وقد أخبرتنا سيدة رودانية بأن كل محاولات الإصلاح كانت تواجه الكثير من الصعوبات، فما إن يفتح باب جديد في السور حتى ينهدم جزء في جهة أخرى.. قالت المرأة الرودانية إنهم «موالين المكان» لا يرضون أن يتم النبش في قبورهم، مؤكدة أن هناك الكثيرين ممن دفنوا داخل السور.
يهود وشيعة خلف السور
كانت تارودانت المنيعة بسورها وأبراجها مدينة منفتحة ومتسامحة عبر تاريخها، يعيش وراء سورها العظيم الكثير من الطوائف والديانات، فقد ساهم موقعها على طريق الذهب في انفتاحها على عوالم مختلفة وأجناس عدة (زنوج أفارقة، وموريسكيون أندلسيون، ومشارقة، وأوربيون من جنسيات مختلفة: إنجليز، هولنديون، فرنسيون(.....
ومن بين سكان المدينة الأصليين عدد كبير من اليهود المغاربة استمروا في عيش حياتهم اليومية والدينية بشكل عادي، بل كان من بينهم من تقلد مناصب رسمية هامة، مثل اليهودي موسى القاضي الذي تولى الإشراف على إدارة معاصر قصب السكر الذي اشتهرت به تارودانت، وقبله تولى هذه الإدارة عدد من المسيحيين القادمين من الأندلس، دون أن ننسى أن تارودانت كانت بمثابة جزيرة شيعية آوت الشيعة البجلية، وهي فرقة نادرة ومتفردة لم توجد إلا بتارودانت. هذا المذهب الذي ترك أثره في السواد الذي يفضله السكان على غيره من الألوان، وامتد تأثيره إلى باقي سوس، ومازال المسنون هنا يتلفظون بالصلاة على النبي وآله.
*من العدد الـ5 لمجلة هسبريس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق