الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

عبد الله العروي

مقدمة:
اشتهر عبد الله العروي بكتاباته عن أزمة المثقف العربي . رآها انعكاسا لأزمة المجتمع , ولكنه اعترف بوجود « أزمة ذاتية تهمه هو ويلهي بها ذهنه وأذهان قارئيه » ، وهي أزمة تجعل أزمة المجتمع أعمق وأخطر , خصص لها مقالة في المؤلف المشار إليه أسفله، تناول فيها بالدراسة والتحليل أسبابها التي حصرها في عاملين أساسيين وهما . ازدواجية التكوين وضعف استيعاب العلوم الاجتماعية, واستخلص منها سمات المثقف العربي ، وجعل في مقدمتها البؤس الذي « يقود كثيرا من المثقفين إلى اليأس من إصلاح شؤون المجتمع » ( ) ، . نجد في « أوراق » معلومات دقيقة حول سمات شخصية المثقف المغربي والعوامل المؤثرة فيها , المعطيات التي تزخر بها « أوراق " يمكن استغلالها في دراسة الحالة"  .
صرح المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية ( ) بأن الأمر يتعلق بوصف شخصية إدريس حيث قال : « من وراء التساؤلات حول الموضوع والأسلوب … توجد شخصية إدريس » ودعا القارئ إلى الكشف عنها , قالها بنوع من التحدي كمن يدعوك إلى حل لغز من الألغاز المستعصية , قدم لنا شخصية ملفوفة محجوبة ، تتوارا خلف تقنيات السرد الروائي وأشكاله التعبيرية التي يمتزج فيها الصدق بالتمويه , واعتبر محك الفهم هو القدرة على خرق الحجاب للوقوف على عناصر الشخصية وإعادة بنائها , ولا يستقيم البناء إلا بالاعتماد على الخيال لاستنباط الحلقات المفقودة التي تعمد المؤلف انتزاعها من السلسلة , ذلك ما عبر عنه بقوله: « أوراق إدريس هي حياته ، لكن حياته ليست كلها في أوراقه , يبقى مجال واسع يرتع فيه خيال القارئ ، خاصة الشاب، يتصور ما كان وما لم يكن ، وما كان يمكن أن يكون » ( ص8), وصرح المؤلف أيضا بأن الهدف من كتابة سيرة إدريس الذهنية هو وصف الجو الثقافي الذي عاش فيه رعيل المثقفين من ذوي الثقافة المزدوجة الذين اشتهروا في مرحلة ما بعد الاستقلال, لذلك يمكن أن نعتبر سيرة إدريس الذهنية حالة نموذجية تمكننا من إدراك القواسم المشتركة الموجودة بينهم بخصوص اختياراتهم وتوجهاتهم الفكرية والمعتقدية والعوامل المأثرة فيها , هذا هو الهدف المعلن , ونحن نفترض وجود أهداف ضمنية يسعى الكاتب إلى تحقيقها عن وعي أو عن غير وعي , ما هي هذه الأهداف ؟ ما هو الدور الذي أراد الكاتب لرواية السيرة الذاتية أن تلعبه ؟ ما وظيفة تعليق الراوي عليها وتعليق شعيب ؟
هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها , سنركز التحليل على نقطتين أساسيتين وهما: أولا ، مسيرة تكوين إدريس الفكري , وسيكون الهدف هنا هو بيان تأثير الفكر الغربي في شخصيته وما ترتب عن ذلك التأثير من تمزق في الذات , ثانيا ، محاولة بناء الشخصية من خلال جمع شظاياها المبعثرة في مختلف الفقرات , وهو ما سيمكننا من تشكيل فكرة عامة حول صاحب السيرة والكشف عن الأهداف المضمرة التي تساءلنا عنها.
لمعرفة تأثير الفكر الغربي في تكوينه سوف لن نكتفي بالإشارة إلى أسماء الفلاسفة والمفكرين الذين تأثر بهم خلال مختلف مراحل التكوين , لذلك سنقوم في البداية بالتعريف بالفلسفات التي بدا لنا أنها حاضرة بشكل مكثف في ذهن المؤلف عندما أقدم على كتابة الرواية وفي ذهن إدريس الذي يمثل صورته في الماضي , ولعل أهم الفلسفات التي أثرت في حياته الفكرية والسياسية هي الفلسفة الرومنسية الألمانية وامتداداتها عند شوبنهور وتلميذه نتشه, وسيلاحظ القارئ أن الأفكار التي سنستعرضها توجد أصداؤها كلها في " أوراق"» ,
 1 -  الفلسفة الرومنسية وامتداداتها .
الفلسفة الرومنسية حركة فكرية ظهرت منذ أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا كرد فعل ضد فلسفة الأنوار ، ضد العقل وسلطته الشمولية , انتعشت هذه الحركة ، من غوته إلى شوبنهور ، في الأعمال لأدبية بالخصوص , واكب ظهورها احتداد الصراع بين مؤيدي ما وصف حينئذ بالاستبداد المتنور والقوى السياسية الأخرى , في هذه اللحظة بالذات احتد الجدال حول مسألة الإلحاد , كانت لحظة صراع أيديولوجي شامل ,وإذا كانت الحركة الرومنسية قد ناهضت عقل الأنوار في بداية تشكلها فإنها أحلت محله العقل كما تصوره سبنوزا , وهو عقل لم يقطع صلته بالوجدان والشعور الديني , العقل عند فلاسفة الأنوار نور يبدد الظلمات , إنه التعبير عندهم عن وضوح الرؤية والأفكار وسداد الحكم, مع ظهور الفلسفة الديالكتيكية أصبح يعني قوة الخلق ووحدة الكل ، الوحدة المتجلية في تناسق الكون وجلاله ,
عند غوته ، مرورا بشبنهور ونتشه ، انتقل مركز الثقل من الأنا إلى الطبيعة , لم يعد مركز الفكر هو الأنا كما كان الشأن عند ديكارت , الطبيعة ، حياة الطبيعة هي مركز الفكر, ثورة كوبرنيكية أخرى , أصبح الرومنسيون ينظرون إلى الطبيعة على أنها صيرورة الوجود المتجلي للزمن , زمن لا رجعة فيه ، محل الولادة والموت ، الحجاب الذي يخفي تناهي الذات ودوام الإرادة والقوة الإلهية , التفكير في عظمة الكون ، إدراك وحدته ، والإحساس بنبض الحياة فيه مجازفة خطيرة بالنسبة لمن لا يستطيع أن يتبين نظامه الكلي , يستدعي إدراك النظام الكلي العودة إلى الأصل ، ورصد سلسلة الكائنات , من نتائج الموقف الرومنسي بروز الحس التاريخي وتشكل نظريات التطور.
تمثل الكلية وصيرورتها الوجود الممتد في الزمن البعيد , كل شيء خرج من الليل وإليه يعود, فكر عجيب , في الرومنسية شاعرية ورهبة ، فيها وعد ووعيد , كانت وراء أمجاد العصر اللاحق ومآسيه , كانت ملهمة فنون العصر والنازية الهمجية , تمجد الرومنسية فكرة الوحدة المقدسة الفعالة , وحدة يخضع فيها ضمير الفرد لضمير الجماعة وينمحي فيه , لا قيمة للفرد إلا بانتمائه إلى الجماعة , تعلي من شأن البعد الوجداني في الإنسان ، وتقلل في المقابل من قيمة العقل والمنطق والاستدلال , تعلن أن الحدس الوجداني المدرك لوحدة الكون ونظامه أعظم شأنا من الإدراك العقلي المجزئ , لا مجال إذن للحديث عن الحرية ، هناك كلية تتجاوز الأفراد تفرض منطقها عليهم , إنه القدر ، ويجب الاعتراف به , يقتضي الاعتراف بالقدر الصلح مع الحياة ، مع الكلية , تصالح الفرد مع الوجود يدل على قدرته على فهم الضرورة التي تؤسس نظام الطبيعة التي لا تبالي بشيء بحكم كمالاتها اللامتناهية , بلوغ الكمال يعني انتفاء الغاية والهدف, ليست في الطبيعة أهداف ولا غايات , ويعني الكمال أيضا استحالة التغير والتجديد , ليست الحركة والتغير إلا عودة المثل في شكل جديد ,الطبيعة هي الإله الدائم المتحول ليبقى هو في كل مرة في الشكل الجديد , بروتي ، الهوية الباقية خلف تجدد الأشكال , الطبيعة خلق وإبداع تلقائي مستمر , الإبداع في الشكل لا في المضمون , ما الباعث على هذا التحول ؟ سر يقلق الإنسان, ولكنه يولد لدية الذوق الفني والإحساس بالجمال , يوحي إليه أن المهم ليس في إدراك الحقيقة، ولكن في إعادة تشكيل مظهر العالم , لا فائدة من معرفة الحقيقة والإفصاح عنها ، المفيد هو أن تتحكم في أشكال العالم , يجب أن يبقى السر قائما لينتعش الحدس والرغبة والشعور , أعظم الأوهام وهم الحقيقة , إن العقل لباطل !
التحكم في مظاهر العالم والإنسان رغبة خالجت نفوس الرومنسيين وأنعشت النزوة الميغالومانية عند نتشه , النزعة التي جسدت النازية إرادتها , التحكم في العالم أو المأساة والدمار. يرى نوفاليس أن كل تمثل قابل من حيث المبدأ للتحقيق . ذلك لأن الإرادة هي جوهر كل موجود ، والذاتية حقيقته , شيد تصورك الشخصي للعالم ، وجاهد من أجل تحقيقه في الواقع. تستطيع ذلك إن حصل لك الوعي بأن جوهر الوجود هو الإرادة . العالم هو ما تريد أن يكون . فلا تشغل بالك بما إذا كان التمثل صحيحا أو خاطئا , ذلك لأن الحقيقة ليست على النقيض من الخطأ, كلاهما نابع من صروح الوهم . لا يمكن أن تقول عن الشيء في ذاته بأنه صحيح أو خاطئ، خير أو شر ، كل حكم ينحل في الذات الواهمة . هكذا تتصور الفلسفة الرومانسية العالم , إنه بناء ذاتي يحكمه مبدأ الإرادة .
شوبنهور هو الامتداد المقلوب للنزعة الرومنسية , فيلسوف التشاؤم واليأس , صفتان تميزانه عن المدرسة الرومنسية , عنها أخذ مفاهيمه الأساسية ولكنه أكسبها مدلولات أخرى, مفاهيمه الأساسية عنوان مؤلفه الشهير : " العالم كإرادة وتمثل " , الإرادة هي إرادة العالم، والتمثل وهم .
شوبنهور واحد من أقطاب الحركة الفلسفية التي ترجع أصولها إلى كانط , يقترب شوبنهور من كانط ويبتعد عنه . يقترب منه لأنه يوافقه على التمييز بين عالم النومينات وعالم الفينومينات , ويبتعد عنه لأنه أعطى للمفهوم مدلولا جديدا . النومين عند كانط هو الشيء في ذاته, المبدأ الأول الذي يستمد وجوده من ذاته ، مبدأ الواجب المؤسس للأخلاق , النومين روح العالم ، والروح هي الأخلاق. النومين عند شوبنهور هو الإرادة ، والإرادة روح العالم . لذلك كان شوبنهور يستنكف من مبدأ الواجب الأخلاقي ويرفضه . والفينومينات عند شوبنهور هي التمثلات ، والتمثلات أوهام . العالم بالنسبة للإنسان وهم ، والإرادة جوهر الوجود .
الإرادة هي النزوع نحو الوجود ، الرغبة في إثبات الوجود . وأما الإرادة الأولى فهي الإرادة الكونية ، القوة السارية في الكون ، الدافع الغريزي الحيوي . لا دخل للإنسان فيه ما دام الإنسان هو آخر ما انبثق عنه من الكائنات . ليس الإنسان سيد الكون لأنه المنتوج الأخير للإرادة الكونية ، آخر تجل من تجلياتها , هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الكائنات , ولكن الإرادة بلغت فيه كمالها ، به وفيه حصل لها الوعي بذاتها .
في البدء كان العالم . وكان مندفعا بقوة من أجل التموضع في شكل من الأشكال . وأما إثبات الوجود فقد تحقق بالقوة الخالصة ، القوة العمياء الغير الواعية ، المعبرة عن ذاتها بتجاذب الأجسام وتنافرها : صراع الجبابرة من أجل الوجود . في أعقاب هذه المرحلة التيتانية من تاريخ الكون تجسدت الإرادة في الكائنات الحية كقوة نامية , وأخذت شكل إرادة الحياة , ثم بلغت مرادها في الإنسان واكتملت, وحصل لها الوعي بذاتها . ولكن ماذا كانت النتيجة؟ التعاسة والشقاء بطبيعة الحال .
كان الرومنسيون يعتقدون بأن الإنسان هو أسمى المخلوقات جميعا , زهرة الكون النهائية. وكانوا ينظرون إلى الطبيعة باعتبارها المرآة التي تعكس جمال الزهرة ، ويجدون متعة في رؤية الصورة المنعكسة في المرآة ، تماما مثل نرجس . تفاهة وغرور . هكذا يرد عليهم شوبنهور . إن ما اكتشفته الإرادة بعد حصول الوعي لها هو أن ضخامة المجهود المبذول بالمقارنة مع النتائج التافهة لا قيمة له , من الحكمة لو تم اقتصاده . تبدأ الإرادة كفاحها مثل الجبابرة وينتهي بها الأمر إلى وضع سزيف ، يحمل الصخرة إلى القمة وهو يعلم أنه لن يصل. تفاهات وغرور وعبث ، هذا هو التشاؤم بعينه
الرومنسي المتفائل والفيلسوف المتشائم كلاهما يمجد الإرادة وقوة الاندفاع . يبدأ الأول بالقوة وينتهي إلى الفرحة بالحياة . ينطلق الثاني من القوة أيضا وينتهي به المطاف إلى الضجر واليأس . قلب شوبنهور الرومنسية بإحلاله قيم التشاؤم واليأس محل قيم التفاؤل وتمجيد الحياة. تفاهة في تفاهة ، كل شيء تافه , هكذا يتصور العالم . يدل هذا الانقلاب على وجود اعتلال ما في شخصية الفيلسوف حسب بعض المحللين . شخصية معتلة كليلة ، غارقة في بحر الأوهام واليأس. بدأ شوبنهور فلسفته بالسعي إلى إثبات الذات وانتهى به الأمر إلى نكرانها .
في سلسلة التطور الطويلة برز الإنسان ككائن مفعم بالشهوة والرغبات ، يسعى جاهدا لتحقيق وجوده من خلال إشباعها . تلك إرادة الحياة ، إرادة الحفاظ على الوجود ، قانون الحياة الأول . ومع تنامي العقل تتعدد الدوافع وتتقوى الرغبة والحاجة إلى الإشباع . لم تعمل الحضارة إلا على الإكثار من الحاجات ومضاعفة قوة الرغبات , وفي المقابل لم يحصل أي تقدم في الإنسان من الناحية الأخلاقية. كل ما حصل هو أن كل فرد يسعى جاهدا إلى تحقيق سعادته ، ثم لا يلبث أن يصطدم بجهود الآخرين في سعيهم نحو تحقيق سعادتهم , فيكبح المجتمع جماح رغبته, ولا يغير بذلك من طبيعته شيئا . تبقى الدوافع هي هي ، وتبقى الرغبة والأنانية ، وتبقى الموانع أيضا . إرادة المجتمع فوق إرادة الفرد. وهناك إرادة أخرى أعظم وأعتا من هذه وتلك . إنها إرادة الكون المحيطة بكل موجود . بالرجوع إليها يحصل الوعي للإنسان بأنه قطرة ندى في صحراء مترامية الأطراف ، سرعان ما تنمحي . من بين جميع الكائنات الإنسان وحده يعرف أنه سيموت . يعرف ذلك فيكتشف أن ما كان يجري وراءه تافه وحقير ، وأن وجود الإنسانية أعظم شأنا من وجود الفرد . هكذا انتقل شوبنهور من إثبات الذات إلى نكرانها ، ومن الأنانية إلى الذوبان في الجماعة . ولكن الوعي بحقيقة الإنسان وأوهامه يولد الشعور بالأسى واليأس والكآبة , فما السبيل إلى الخلاص ؟
إذا كان من غير الممكن تحقيق إرادة الفرد وسعادته فإنه من الحكمة أن يضحي بهما في سبيل سعادة الجماعة , ما دامت إرادة الجماعة فوق إرادة الفرد ، وما دام حب الجماعة أسمى الفضائل. ويزداد المشكل تعقيدا بسبب وجود إرادة فوق إرادة الجماعة ، إرادة الكون الشمولية القاسية التي لا ترحم. وهكذا ، فإذا كانت سعادة الفرد وهما فإن سعادة الجماعة هي الأخرى وهم من الأوهام . والنتيجة : كل شيء تافه
الحياة تكرار لما مضى . العالم مسرح يلعب فيه الأفراد نفس الأدوار على الدوام، والتاريخ أكذوبة , وحياة الفرد حلم من أحلام الروح ، روح الطبيعة اللامتناهية ، حلم من أحلام إرادة الحياة. شكل آخر من الأشكال السريعة الزوال ، المرسومة على صفحة الزمان والمكان اللامتناهية . « الحياة قضية تافهة » هكذا يتصورها شوبنهور . إذا كان الأمر كذلك فلماذا يتعلق الإنسان بالتفاهات ؟ السلطة وهم والثروة تافهة . باب التصوف مفتوح على مصراعيه .
اشتكى شوبنهور مرة بقوله أن الحياة تراوح كرقاص الساعة بين الشقاء والضجر, وانبرى يبحث عن الخلاص ، فوجده في الفن . الفن استكشاف وبحث عن الأفكار الخالصة ، به تحصل المعرفة التي تحرر النفس من الإرادة ، وبه تتحقق السعادة الحقيقية ، سعادة لا تسبقها المعاناة ولا يعقبها الندم. في الفن ينكشف التاريخ العميق الذي يمثل حركة الإرادة في سعيها نحو اكتساب الوعي بالذات . فيه تتجلى أسرار الحياة , وتسمع نبضات القلب البشري في مدها وجزرها . يدلنا الفن على حقيقة الحياة في سرائها وضرائها ، على حقيقة الواقع الكامنة خلف الظواهر والأوهام . يغرينا بالحلول في الإرادة الكونية والذوبان فيها . فيه نتجاوز الأنانية ونتخلص من الحزن واليأس والكآبة , ذلك هو طريق الخلاص في نظر شوبنهور . طريق الخلاص عنده هي الموسيقى , أسمى أنواع الفنون , ترحل بالروح خارج الجسد ، تحررها من ضوابط المكان والزمان ، تساعد النفس على النسيان ، فتنسى ارتباطها بالعالم .
أفكار شوبنهور نجدها حاضرة بقوة عند نتشه الذي يمثل حالة مرضية أخرى . علمه أستاذه أن الوعي لا يحدد الحياة ، لذلك رفض العقل كوسيلة لفهم الإنسان . غلب عليه التشاؤم مثل أستاذه ، ووجد الخلاص مثله في الفن، وفي الميتافيزيقا .
2 -  حضور شوبنهور في " أوراق "
إن المعاناة هي الطريق الطبيعية المؤدية إلى فلسفة شوبنهور . عندما تتكاثر عوامل الإحباط وتشتد ، عندما تتوالى تجارب الإخفاق في الحياة ، وتظلم الدنيا في عين الفرد ، وتفقد الحياة معناها عنده, يلوذ بفلسفة شوبنهور . يستسلم لها إذا كان من المطلعين عليها ، وإن لم يكن فلابد أن يعيش تجربته في الحياة تلقائيا وفق مبادئها الكبرى كما لو كان صاحبها . فلسفة شوبنهور حاضرة بشكل مكثف في « أوراق » , حاول إدريس أن يهتدي بمشروع نتشه ومثله العليا فازدادت شخصيته اضطرابا وضعفا ، « انتفخ ولم يتقو ، انعزل ولم يستقل ، احتقر التاريخ والثقافة ولم ينسهما , حكم على نفسه بالإخفاق لما أخطأ التشخيص » ( ص 237 ) , أخفق لأنه يفتقر إلى قيم البطولة والشجاعة . من هنا كان الإحجام والهروب إلى الفن والانغماس في التعبير. لم يجد الخلاص في هذه الدنيا ولو في الدين , الدين الذي يمثل « لحظة التعالي » لأن « التعالي لا ينتهي أبدا في هذه الدنيا بأي نوع من التجسيد والاتحاد وأن كل محاولة في هذا الباب خطأ » (نفس الصفحة), حاول أن يجد الخلاص في الفن بدون جدوى , حاول دلك وعبر عن رأيه بقوله
الفنان حقا هم من يستطيع أن يستقل بالفعل عن وعيه ، لا عن التاريخ والثقافة
فحسب ، من ينسـى نفسـه وينغمـس في المـادة ، في اللامعـقـول ، في الـحـاضـر
الدائم , الفنان حقا هو من يستطيع أن لا يندم ولا يحن ، من لا يحاكم ولا يحكم،
من يأخذ آلته ويغادر العالـم والنفس التي تتذكـر الكـون وما فيه , من ينسى كـل
ما سبق الفرار بل عملية الفرار ذاتها ,
هذه أفكار مستوحاة من كتابات شوبنهور . مأساة إدريس تكمن في كونه لم يستطع أن يرسم لنفسه طريق الخلاص ، طريق الهجرة عبر الفن : «  لم يؤد ثمن الفن فلم يرعه الفن » (ص 239). لو كانت المشكلة مشكلة فردية ، حسب تعليق الراوي ، لكان « الفن طريق النجاح ». ولكن الإخفاق هو إخفاق الجماعة ( نفس الصفحة ), محاولة يائسة للتميز عن شوبنهور
تبدو الحياة للمتشائم اليائس على أنها حلم . كان شوبنهور يعتقد أن الحياة وهم , وردد العروي من بعده يقول : « إذا كنت تحلم ثم حلمت أنك تحلم في حلمك ثم أفقت وأنت لا تزال تحلم, فماذا أضعت ؟ » . ومعناه أنك أفقت فوجدت نفسك في حياة كلها أحلام وأوهام ، ولا فرق بين أحلام النوم وأحلام اليقظة .
انساق إدريس مع شوبنهور بحثا عن نغمة الحنين عله يجد النجاة في الفن . لكنه أخفق بسبب الإخفاق الجماعي ، ثم أحجم وعاد إلى منتصف الطريق التي مر بها شوبنهور ، وبدل أن ينغمس في الطبيعة اكتفى بالانغماس في الجماعة التي ازدراها من قبل تحت تأثير نتشه . حب الجماعة أسمى الفضائل . قالها شوبنهور ولم يقف عندها ، وفضل العروي الوقوف عند حدودها في آخر المطاف . لم يعد يجري وراء نغمة الحنين , انصهر في الجماعة فحق عليه القول ومات. الواقـع أنـه عـاد إلى الرومنسيين من أجل إعلان الصلح مع الواقع . ذلك ما تشير إليه الرمزية المتعلقة بدار غوته , يقول بهذا الصدد (ص 232) :
ودار غوته نفسها ترمز إلى التصالح بين القديم والجديد ، الفرد والمجتمع، السماء
والأرض ، الحلم والواقع ، دار برجوازيـة قطنهـا شاعـر كبيـر قـال بالقـدر وبالعفـو.
التصالح إذن غير عقيم بالضرورة
العودة إلى الجماعة مع طلب العفو . لو كان مسؤولا لكان الشعور بالذنب أودى به قبل أن يقدم نفسه للمحاكمة . ولكنه القدر . لولاه لما كان للعفو عنده معنى . حصل للعروي ما حصل لشوبنهور, بدأ رحلته الفكرية بإثبات الذات فابتعد عن الجماعة ، وانتهت الرحلة بنكران الذات والعودة إلى الجماعة. تصالح شوبنهور مع الجماعة لأنه جعل من الشفقة قيمة أخلاقية سامية، ورأى في التنوع مظهرا من المظاهر الخادعة . شعر بأن معاناة الغير هي معاناته الشخصية . فلا فرق عنده بين الأنا والغير . الأنا هو الغير والغير أنا ، فهما يشكلان نفس الواقع وحقيقته الباطنية المتمثلة في الإرادة التي تمثل النومين أو الشيء في ذاته , « الفردانية مظهر خالص » هكذا يقول شوبنهور ، وهو ما عبر عنه العروي بقوله « إخفاقي هو إخفاق الجماعة » أو بعبارة أخرى: معاناتي هي معاناة الجماعة .
برر إدريس التصالح مع الجماعة بالقدر . عقد صلحا منفردا ووجد لنفسه المبرر والعزاء في كون جميع من سبقوه قاموا بالتصالح على انفراد . حتى الاستعمار الذي كان بوسعه أن يقلب الأوضاع رأسا على عقب تصالح مع الوضع القديم . بما أن الزلزال لم يحصل فإن كل شخص مجبر على عقد التصالح على انفراد . إنه القدر، وفي القدر مواساة وعزاء . فكرة عبر عنها شوبنهور في كتابه « العالم كإرادة وتمثل » ، يقول بالحرف الواحد : le consolateur , c'est le fatalisme
3 -  جذور المشكلة
سبقت الإشارة إلى أن شوبنهور رفض مبدأ الواجب الأخلاقي الكانطي . تخلى عنه نتشه بدوره وأحل محله مبدأ الضرورة . نجد في الرواية ما يشير إلى استنكاف العروي من مبدأ الواجب الأخلاقي ودعوته إلى فصل الأخلاق عن التاريخ والسياسة . جاء على لسان الراوي أن إدريس مال إلى مهنة التدريس تحت تأثير أحد أساتذته , تعرف على حقيقة هذه المهنة من خلال مشاهدة فلم بعنوان : « وداعا مستر شبس » ، وحصل له الامتعاض من مهنة يحكمها مبدأ الواجب . عبر مستر شبس في خطبة الوداع عن حقيقة هذه المهنة بقوله : « قم بواجبك ولا تنتظر أية مكافأة » , وكان رد فعل إدريس: «  لن أكون أستاذا أبدا ، إنها مهنة حقيرة » .
يولد الإيمان بمبدأ الواجب الشعور بالمسؤولية . لم يكن إدريس مسؤولا تمام المسؤولية و« يلقي المسؤولية دائما على الغير » ( ص 232 ) . اعترف بأنه «  تأخر عن القيام بواجبه والمشاركة في بناء المغرب المستقل » ( ص 239 ) . تقاعس ولم يتحمل المسؤولية ، لم يؤد واجبه الوطني في الوقت المناسب . كانت لهذا التقاعس عواقب خطيرة ومضاعفات سلبية على حياته المستقبلية حسب تصريحاته التي تكررت بهذا الشأن في مواضع كثيرة ( ص 239 ) . ومن أمثلة ذلك إحساسه المؤلم بأن الطلبة النشيطين في الحركة الوطنية كانوا يتشككون في وطنيته بسبب تصريحات أدلى بها عقب نفي محمد الخامس : « لم يتخيل إدريس ، يقول الراوي ، أن الكلمة التي فاه بها دون روية ستسجل عليه وتتبعه عواقبها سنين وسنين » . لم يكن بعد قد تعلم كيف يتقنع رغم اطلاعه على وصايا نتشه . جاء على لسان شعيب أنه « لم يكن قد تعلم بعد أن الأفضل في هذه الحالات أن تردد ما تسمع لا أن تصف ما ترى » (ص 93) . وكان من مضاعفات التقاعس في أداء الواجب الوطني أن « طرد طردا من الساحة العمومية » (ص 165) . يجب أن نفهم الساحة السياسية .
ربما ترجع خيبة إدريس وآلامه ومعاناته إلى سوء حظه . سوء الحظ المتمثل في تزامن حصوله على منحة من الحكومة الفرنسية مع محنة الملك وشعبه . كان يتلهف للحصول على المنحة. طمس التلهف بصيرته فلم يشعر بالزلزال الذي هز المشاعر . تبدأ الثورة في الشعور والوجدان ، ثم تتموضع بعد ذلك في الكفاح . لم يشعر بذلك كله فبدت له الأوضاع هادئة ، وأثار ذلك سخط الطلبة الوطنيين .
ربما شعر المراهق بأن الاستقلال بعيد المنال فعز عليه أن يفوت الفرصة على نفسه. كان مستوى طموحه عاليا ، يقع في أسمى الدرجات . التشوف إلى المقام الرفيع في صفوف النخبة السياسية دفعه إلى اختيار شعبة « العلوم الاجتماعية التي كانت آنذاك مرتبطة بفنون الإدارة ــ الإدارة ، الكلمة ، النفوذ » ( ص 41 ) . كانت السياسة حلمه الكبير والدراسة وسيلته الأساسية لتحقيقه ( ص167 ). وضع هدف الدراسة خارج الذات وحرص على تحقيقه مهما كانت الظروف . لقد أصبح الحصول على المنصب الرفيع حافزه القوي في الدراسة , باستطاعته أن يحقق أحلامه في هذه الظرفية أو تلك , كل شيء ممكن . يعرف ذلك جيدا من انتبه منذ وقت مبكر إلى أن « السياسة هي علم الممكن ، فن التلون مع الواقع » ( ص 53 ) . كل شيء محتمل بالنسبة لمن حصل له الوعي بالإرادة واكتسب القدرة على التكيف مع مختلف الظروف .
كان إيمانه بفلسفة الحياة آنذاك قويا . إرادة الحياة فرضت عليه التكيف من أجل إثبات الوجود . يقتضي التكيف التحلي بروح الواقعية والحذر والقدرة على اقتناص الفرص . المنحة فرصة العمر الناذرة, « حصل عليها بعد طول الانتظار واليأس » . استطاع الفوز بها لسببين رئيسيين: تفوقه في الامتحانات من جهة ، وانتماؤه إلى « مدينة صغيرة هادئة » ( ص 71 ). وأما التفوق في الامتحان فيرجع إلى قوة الحافز الذي أشرنا إليه ، بينما يشير هدوء المدينة الصغيرة إلى عدم وجود ما من شأنه أن يثير حوله الشبهات ، وخاصة شبهة الانتماء إلى الحركة الوطنية . لا شك في أن السلطات الفرنسية كانت لا تقدم على تخويل المنح للمرشحين لها في وقت اشتداد الأزمة الفرنسية-المغربية إلا بعد دراسة ملفاتهم للتأكد من عدم تأثرهم بالروح الوطنية السارية في جسم الأمة وقت محنتها الكبرى . كانت الأوضاع تبدو له هادئة تماما ، وهو الدليل على أنها لم تجد منفذا تتسرب منه إليه . وأما ما كان يؤرقه في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأمة فهو الخوف من ضياع الوقت الذهبي الضروري من اجل الاستعداد لاجتياز مباراة الولوج إلى « المدرسة الوطنية للإدارة » ( ENA ) التي تتخرج منها الأطر العليا للدولة في فرنسا .
كان يسابق الزمن فود لو يطير . ركب الطائرة وحلقت به في الأجواء ، في عتمة الليل. شاب من أسرة فقيرة يختار ركوب الطائرة بدل الباخرة رغم ارتفاع سعر تذكرة السفر، لأن الوقت لا يرحم , فرصة العمر الوحيدة لا تعود ، من أجلها يمكن التضحية بكل شيء, بكل ما يمكن تداركه أو التعويض عنه في المستقبل . وما كاد يبزغ الصباح حتى حل بدار المغرب. كان أول من قابله هو مديرها ، « هذا الرجل الرقيق العاطفة كان أحد أقطاب الشرطة الفرنسية في المغرب, لكن الله يرعى الأبرياء » ! ( ص 72) . طلب منه غرفة فاعتذر لعدم توفرها . اشتكى له الفتى من ضائقته المالية « فرق » لحاله ومنحه الغرفة في النهاية . طريقة معروفة ، استعملها الضابط لإشعاره بأن له عليه دين. أداء الدين في هذه الحالة يعني الحفاظ على « استقامة » السلوك .
يبدو أنه استجاب لتوقعات المدير . صرح أنه لم ينتم إلى أي حزب بما في ذلك حزب الحركة الوطنية خلال مدة إقامته في فرنسا . وكذلك ظل وفيا لتوقعات أبيه الذي كان ينصحه على الدوام بأن يفكر كيف يشاء دون أن يقدم على الفعل ( ص 50 ) . هذا مع العلم أن حقيقة الإنسان لا تتحدد بما يقول ولكن بما يفعل . استبطن موانع السلطة الأبوية والمؤسساتية ومعاييرها فراح يمارس الرقابة على الذات وخاصة في كل ما يتعلق بالسلوك . « عاش تجربة سياسية ولكن على مستوى الذهن فقط » (ص 95). كان يعتقد بأن دور الطالب ينحصر في التوعية وبعث الهمة لا في حمل السلاح ( ص 53 ) . لا مخاطرة إذن , ذلك ما لاحظه الراوي .
هكذا ظل إدريس وفيا لتعاليم الأسرة ، حريصا على الاستجابة لتوقعات المؤسسة الفرنسية ، عن وعي أو عن غير وعي . إرادة الحياة تدفعه إلى تحقيق الوجود المنشود ، الحاجة إلى السلطة والنفوذ ، وتدفعه الشهوات إلى ملاحقة شبح الأنثى . أدى به الجري وراء الأطياف الهاربة إلى التضحية بالقضية . ربما حصل له الوعي بوضعه المستلب المتمثل في العجز عن التأثير في الأحداث ، وربما استحوذ عليه الشعور بالخيانة والندم ليصبح عرضة للصراع النفسي, الحرب الأهلية الداخلية التي مزقت كيانه . تمزق الذات بين المطالب المتنافية . يود لو كان حرا ، ويقصد بالحرية النهوض ضد الذات وتكسير مجرى القدر ومعاكسة الطيع, « الإنسان إنسان إذا ثار وتوتر.. وإلا خان .. وشد ما يخون » (ص 82) .
الشعور بالخيانة والشعور بالذنب علامتان من علامات الوعي الشقي . كان إدريس يرى التعاسة في كل شيء ويؤنب ضميره باستمرار, كتب عن باريس يقول : « …مدينة النور، مدينة التعاسة .. فيها عاديت نفسي .. جئتها سيد الأسياد فحولتني إلى متصوف بلا ضمير ولا إرادة .. » ، ثم تابع قوله متسائلا : « هل ينفع الحزن ، يزهر ويغل ؟ » ( ص 84 ), شهد شاهد منه أنه حول الإخفاق الذي أحس به إلى نوع من الانتصار . قالها « من هو أعلى من ذاته في ذاته » ( ص 242 ) ، صاحب الكلمة الفصل ، شعيب الذي هو بمثابة الأنا الأعلى فيه. يقول:« كنت وأنا أستمع إليك تصف مراحل ابتعاد إدريس وانزوائه وانكماشه أرى فيها خطوات ئويته إلى أصله وهويته , لم يعها لذلك قصدها بحزم , اشتغل بتجريد نفسه وتصفية وعيه لذلك حجبت عنه وجهته الحقيقية » ( ص 243 ), لم يراجع نفسه عن وعي في البداية ، وإنما حصل ذلك من خلال عمليات التصعيد وما رافقها من آليات دفاعية وإسقاط .
حاول المؤلف في لحظة الكتابة أن يحول صورته الاجتماعية القديمة المخجلة إلى نقيضها مثلما تحول الكيمياء القديمة الشيء المبتذل إلى شيء نفيس , حاول ذلك من خلال الاشتغال بتجريد نفسه وتصفية وعيه على طريقة المتصوفة الذين استخدموا كيمياء السعادة لتحويل النفس الأمارة بالسوء إلى مرآة مصقولة تعكس الصفات الإلهية . ذاق مرارة الحياة من جراء الصورة الاجتماعية التي تشكلت من خلال تفاعله مع الطلبة المغاربة فصمم على إنتاج صورة جديدة تنسخها مثلما تنسخ الآية المتأخرة آية متقدمة . كانت مواقف الطلبة النشيطين في الحركة الوطنية منه سلبية ، وكانت مواقفه منهم سلبية أيضا . عن هذا التفاعل السلبي بين الذوات انبثقت صورته الاجتماعية التي لم يرض عنها . كان يعتقد مثل الرومنسيين أن الحياة تمثل وأن بإمكانه أن يغير شكل الحياة بإنتاج ونشر تمثلات جديدة تبدد التهم اللاصقة به ، وتحرره من الشعور بالذنب . تلك هي وظيفة الكتابة عنده , هدفها التعبير عن لون التجربة المعيشة لا عن التجربة ذاتها ( ص 233 ) . لكن الصورة الجديدة ستنبثق عن المخاض العسير.
كان إدريس يشعر أن أصابع الاتهام تتجه إليه حيثما حل ، ويشعر أنه محل ازدراء، « لم يقل لي أحد من الجماعة أنت ساذج ولكن هكذا أبدو لهم بلا شك » ( ص 79 ) , فاستحوذ عليه الارتياب ، ومال إلى العزلة والانكماش على الذات . لكن الصورة الاجتماعية ليست العامل الوحيد الذي يفسر نزعته الانطوائية . خلف هذه الصورة توجد الفوارق الاجتماعية أيضا . ينتمي معظم الطلبة الذين عاشرهم إلى مختلف شرائح البرجوازية المدينية ، بينما ينتمي هو إلى أسرة فقيرة نسبيا تعيش في مدينة صغيرة خضع فيها لتنشئة اجتماعية على النمط التقليدي . وكان لابد أن يؤدي اختلاف الأصول الاجتماعية إلى صعوبة التواصل وسوء التفاهم .
وبالإضافة إلى ذلك لعبت صورته عن الذات دورا مهما في فصله عن عالم النساء، وعززت بذلك ميله إلى الانطواء على النفس . يوحي وصف الراوي لهيأة إدريس بأنه لا يرتاح إلى صورة وجهه في المرآة , ربما كان يتضايق من قسمات وجهه التي تبدو له منفرة لطبع النساء . كان انتباهه يتركز في كل لحظة من لحظات حياته بشكل مرضي على بعض التفاصيل . فلا يكاد يتخلص من استحواذها عليه حتى يكتشف تفاصيل أخرى . يدل الوصف على أن صورته عن ذاته كانت سلبية . الرأس الغليظ والأنف الضخم والفم الواسع , « صورة مؤلفة من مجموعة لقطات غير متزامنة » ( ص 12 ), للأنا طاهر وباطن . باطنه حالات شعورية وظاهره بنية عضوية وهندام . كان مفتول العضلات . سافر إلى « بر العدو » وهو يرتدي حذاء مدعما بقطع الحديد أسفل الكعبين ، « كلما خطى خطوة تزعزع الدرج ». أثار ذلك انتباه أول فتاة فرنسية صادفها فشبهته بالحصان المصفح ( ص 72 ) . كانت بمثابة المرآة التي عكست له صورته كما تبدو للنساء .
لا شك في أن تجربة الاحتكاك السلبية بأول فتاة فرنسية هي التي كانت السبب في تولد مشاعر الخجل من الذات أمام غيرها من الفتيات . لو امتدحته لما كانت هناك مشكلة تذكر . حقيقة عبر عنها جيرودو في مسرحيته الشهيرة على لسان رئيس المؤسسة الذي اكتسب صفات الجمال بمجرد أن سمع أنياس ، الموظفة الجديدة التي لا زالت في ريعان الشباب ، تقول له : أنت جميل. وقال مخاطبا زوجته التي ما انفكت تشعره بأنه قبيح : « اسمعيني جيدا تريز للمرة الأخيرة, ما وجدت المرأة على هذه الأرض إلا لتقول للرجل أنت جميل . وأما أولئك اللواتي يتعين عليهن التصريح بذلك فهن الحسناوات الجميلات , وبالفعل فإن هؤلاء هن اللواتي يقلن ذلك , تقول لي هذه المرأة التي لا زالت في ريعان شبابها بأنني جميل ، تقول ذلك لأنها جميلة . أما أنت فإنك تقولين مرارا وتكرارا بأنني قبيح . كنت أشك دائما في صحة أقوالك . أنت مرعبة تبعثين على الاشمئزاز »() . فهل بدأ إدريس يشعر بأنه قبيح في أعين الفتيات الفرنسيات بمجرد أن سمع وصف الفتاة له ؟ إن التمثل هو نتاج التفاعل .
4 -  إعادة تأسيس الواقع
ما أن قضى إدريس بضعة أسابيع في باريس حتى طغى عليه الشعور بانهيار الذات. يتجلى ذلك من خلال الصراع النفسي المتمثل في التنافر بين متطلبات الواقع وتوقعات الآخرين وبين ما يستلزمه تحقيق الطموحات الشخصية . يمثل التعارض بين الطموحات والتوقعات المذكورة النواة التي تشكل حولها الفصام عنده . المشكل المطروح بالنسبة إليه هو التالي : هل يستجيب لنداء الجماعة وقت محنتها الكبرى ويتوقف عن السعي إلى تحقيق رغبته الأنانية ولو مؤقتا أم يوكل أمر الجماعة للقدر وللإرادة مهمة إثبات الوجود ؟ لعله اختار الرقص على الحبلين معا . رجل هنا ورجل هناك ، تباعد الحبلان فحصل شرخ في الوجود . من هنا كانت المعاناة : العزلة والكآبة والغربة عن الذات والشعور بالعجز . كان يعاني من الصورة التي شكلها عن العالم ومن صورته في ذهن الغير كما يتخيلها . تفاقمت هذه الظواهر عندما طغى عليه الشعور بالغربة والحنين إلى الوطن ، وعندما استحوذ عليه الشعور بالإخفاق في ميدان العلاقة بالنساء .
المشكلة في العمق هي مشكلة النظرة إلى العالم . عاش إدريس تجربة الحياة المرة في عهد الصبا , حياة كلها ضجر : الإحباط واليأس والخوف والقلق والتمزق والضياع . تجارب حملته على الاعتقاد بأن الحياة عبث . بحث فيها عن المعنى على ضوء مسلماته فلم يجده . فقدان المعنى في هذه الحالة دليل على وجود توتر في الوجود . التوتر بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن بالفعل . إن ما يحدد النظرة إلى العالم هي تلك المصادرات العميقة التي تشكلت في الذهن تحت تأثير التربية والتعليم. ولا يمكن الوعي بهذه المصادرات إلا من خلال التفكير في الخطاب الذي تم إنتاجه حول وقائع الحياة ، لا من خلال الإدراك المباشر لتلك الوقائع . « كان يمكن أن يعيش التجربة ببساطة لكنه صمم على أن يحياه وأن يحكم عليها في آن » (ص 234- 235) , وحاكمها على ضوء الأفكار القبلية التي نقشت في ذهنه .
كان عليه أن يتخلص من هذه الأفكار من أجل العودة إلى معاينة الواقع على طريقة الفينومينولوجيين . التجرد من الأفكار القبلية يعني أيضا العودة إلى حالة التوازن والانسجام مع المحيط الأصلي . وأما وسيلته في ذلك فهي الكتابة , كتابة السيرة الذهنية بالخصوص كتقنية من تقنيات التطهير والعلاج الذاتي . في السيرة تتموضع الذات ويحصل لها الوعي بمسلماتها ومصادراتها العميقة وما ينتج عنها من أوهام . ولكن الوعي بما يوجد في الأعماق لا يحصل بمجرد التعبير عن تجربة الحياة اليومية . لم يحصل الوعي لإدريس بمجرد أن فكر في وقائع الحياة اليومية ودونها في الأوراق. قد يكون التفكير الحاصل على هذا المستوى محكوما بالمصادرات التي يتعين الوعي بها , لذلك كان لابد من إنتاج خطاب حول الخطاب الأول ، وهو ما قام به المؤلف بواسطة الراوي . يرى بعض المحللين أن المصادرات التي تحكم نظرة الفرد إلى العالم توجد على هذا المستوى الثالث . « وهكذا ، فعندما يريد المرء أن يغير مصادرات المستوى الثالث فإن هذا التغيير الذي نعتبره بمثابة الوظيفة الأساسية للعلاج لن يحصل إلا إذا استطاع التموقع في مستوى رابع » ( ) ذلك ما سيحاول أن يقوم به المؤلف بواسطة شعيب .
غير أن إدراك الدقائق الموجودة على المستوى الرابع لا يحصل إلا بضرب من ضروب الحدس ( ) . ولعل ذلك هو ما قام به المؤلف بواسطة شعيب ، وهو ما عبر عنه بقوله أن إدريس « راح يبحث عن همهمة ترافق المسافر أثناء سيرته , بحث عنها ولم يدركها , أما نحن فإننا لا نبحث عنها ومع أو بسبب ذلك ندركها » ( ص 241 ) . أدركها بمجرد أن شاهد « انعكاس الصورة في مرايا متقابلة » ( ص 192 ) . الصورة واحدة ولكنها تنعكس في مرايا متعددة ، تمثل كل واحدة منها مستوى معينا من مستويات الواقع الذاتي في اتجاه الأعمق ، في اتجاه المصادرات العميقة اللاواعية التي تحكم النظرة إلى العالم . وبهذا نكون قد أجبنا على السؤال المتعلق بالغرض من تعدد الوسائط والذي طرحه المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية حيث دعا المحلل الناقد « إلى الذهاب إلى الأبعد والأعمق » وعدم الاكتفاء بالتحليل السوسيولوجي للمضمون وتحليل الخطاب ( ص 7 ) .
السيرة الذهنية هنا هي سيرة السير ، شريط يتناول حياة الأشرطة السابقة ـ وأما « السيرة الذاتية التي استعمل فيها صيغة المتكلم قد استنفذت مادتها في الأعمال المنشورة »، « الجانب الواقعي من حياته معروف مسبقا ... لم يبق لي ، يقول المؤلف ، إلا أن أتوسع في الجانب التحليلي » (ص 5) ولكن التحليل لا ينفصل في السيرة الذهنية عن « عملية النجر والتنقية التي ما فتئ يجريها على وعيه » ( ص 237 ) . سعي متواصل لسبر أغوار الذات وتطهيرها من مخلفات التأثيرات التي خضع لها في مرحلة الصبا , محاولة للتحرر من المعتقدات أو المصادرات التي ترسبت في ذهنه عندما كان يتابع دراسته في المدارس الأجنبية . فهل استطاع أن يتحرر منها ؟ كيف يتسنى له أن يجتثها من جذرها تلك النظرة البائسة إلى العالم؟ التغير ممكن ولكن لا أحد يعرف كيف يحصل على مستوى الأعماق . ليس بوسع المحلل إلا أن يرصد نشوء المشكلة ويقوم بتشخيص أعراضها وإبراز المؤشرات الدالة على اتجاه التغير على مختلف مستويات الواقع الذاتي .
المشكلة باختصار هي مشكلة النظرة إلى العالم . نظرة تشكلت على أساس مبادئ مستمدة من فلسفات غريبة عن محيطه الثقافي الأصلي . يتعلق الأمر بالخصوص بالفلسفات الوجودية بما في ذلك فلسفة نتشه وأستاذه شوبنهور والرومنسيين من قبله . هذه الفلسفات وخاصة فلسفة نتشه جعلته ينظر إلى الواقع نظرة ازدراء . احتقر الجمهور وأنماطه السلوكية واستخف بموروثه الثقافي الذي لم يعد يرى فيه سوى أثرا من آثار مراحل الانحطاط الطويلة . استهوته فكرة البطولة فانسلخ عن الواقع . من هنا كانت الغربة والمعاناة .
تغيير النظرة يستلزم بالضرورة إعادة ترتيب عناصر بنيتها التحتية ، بمعنى إجراء تعديل جوهري على أكسيوماتها أو مصادراتها الأساسية . لا يعني ذلك استئصالها مثلما تستأصل الأورام من الجسد , إذ ليس هناك من يستطيع التخلص نهائيا من رواسب تجاربه السابقة في الحياة . لقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من شخصيته . يجد الإنسان نفسه وقد قذف به في عالم غريب كما يقول الوجوديون ، تتشكل شخصيته تحت تأثير التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تخترقه , يوجد أولا ، ثم يعمل بعد ذلك جاهدا من أجل تحديد هويته عن قناعة واختيار ، ثم يضفي على العالم معاني ودلالات خاصة . كل ما يمكن القيام به هو إعادة النظر في الموروث لا التخلص منه نهائيا . يشهد الراوي أن إدريس عجز عن التجرد منه « أقصى ما قام به هو أنه ثار ضد المخزون في ذهنه , رأى فيه أصل انسلاخه عن هويته , غير أنه لم يقدم أبدا على الخطوة الفاصلة ، على محو المخزون من الذاكرة ، الذهنية والجسدية » ( ص 237 ) .
اكتسب الأفكار في سياق يختلف اختلافا جوهريا عن السياق الاجتماعي الأصلي وتشكل ذوقه الفني فيه . وعندما عاد إلى محيطه الطبيعي وظف ما اكتسبه للحكم عليه فانقلبت ضده , واعتلت شخصيته , انتفخت الذات فأصيب بنوع من بجنون لعظمة بدل أن يكتسب القوة والاقتدار، وبدل أن يحقق استقلال الشخصية تورط في براثن العزلة والاغتراب . أصيب بالقرف من كل شيء ، حتى من المآثر التاريخية التي تبهر السواح : « وعى ( إدريس ) مبكرا التناقض بين الحياة والخيال » ( ص 172) ولكنه لم يجد إلى حله سبيلا . عكس التناقض في المرآة ولم يجعل من الصورة المنعكسة موضوعا للتفكير . ما كان باستطاعته أن يميز بين الواقع والصورة « فلم يعد يرى على أي تناقض يدور كلامه ، عن تجربته المباشرة أم عن صورته المنعكسة على الشاشة » ( نفس الصفحة ) . نقرأ في مكان آخر : « أراد إدريس أن ينفصل عن ذاته ليتأملها منعكسة في مرآة فخطط حياة مخالفة لحياته , غير أنه لم يصمد أمام هجمة الواقع , انهار السد الواقي وتكسرت المرآة » ( ص 20 - 19 ), أوراق إدريس كلها محاولات فاشلة لموضعة تجاربه في الحياة, « يجاهد ولا يصل » (ص 21) .
لم يكن باستطاعته أن يتجاوز التفكير في الواقع إلى ما يؤسس النظرة إلى ذلك الواقع. لم يكن بعد قد اكتسب قدرة التعبير على المستوى الثالث والرابع . « شاب في الثامنة عشرة يتمثل حالة نفسه قبل خمس سنوات , لكن الفارق الزمني لم يكن فارغا , نما فيه عقله ، تغير ذهنه بواسطة التربية والتهذيب , هنا أصل التصور التمثل » ( ص 21 ) , يعني أصل المشكلة . الذات وما تنطوي عليه كأصل للأحداث . « كتب إدريس يوما وهو يصف الفتى : ذهنه خال إلا من مواقف البطولة , هي الموازن ، المعايير ، المقاييس » ، « ينظر التلميذ المتأدب إلى نفسه ومحيطه من خلال الأنماط - التماثيل - المحفوظة في ذاكرته , بها ــ وربما بها وحدها ــ يتحدد موقفه من الحياة » ( نفس الصفحة ). هكذا تم تشخيص المعضلة بدقة في الحوار الذي دار بين الراوي وشعيب اللذين تمكنا من التموقع في أبراج المراقبة العليا . بعد التشخيص لابد من التفكير في وضع خطة للعلاج .
هناك إمكانيتين لا غير , إما تغيير الواقع ليتلاءم مع النظرة ، وإما تكييف النظرة مع الواقع الدائم . تغيير الواقع في هذه الحالة من قبيل المستحيلات . كل ما بوسعه أن يفعله هو أن يغير النظرة إلى الواقع ويضيق الفجوة بين الواقع والواجب . وأما السبيل إلى ذلك فهو إعادة تأطير العناصر الثقافية المكتسبة التي تؤسسها . هذه تقنية معروفة في الطب النفسي . تقنية إعادة التأطير recadrage تعني تغيير السياق النظري أو الوجداني الذي يحيط بوضعية معينة ( ) . إعادة التأطير يعني أيضا تصنيف نفس العناصر ضمن مجموعة أخرى أو إدراج التصنيف الجديد في النسق المفاهيمي للفرد ( ) . يمكن ذلك ما دامت كل مجموعة من العناصر هي عبارة عن بناء ذهني أو ذاتي . إن الإنسان هو الذي يصنف الأشياء إلى مجموعات حسب دلالتها وقيمتها بالنسبة إليه . إعادة تصنيف العناصر ضمن فئة جديدة يعني أيضا تسخير تلك العناصر لخدمة أغراض أخرى أو توظيفها على النحو الذي يمكنها من أداء وظيفة جديدة . هذا مع العلم أن وظيفة الشيء تختلف باختلاف السياق . وهكذا فإن نفس الأيديولوجيا عندما تنقل من سياقها الأصلي إلى سياق آخر تؤدي وظيفة مغايرة للوظيفة التي تؤديها في السياق الأول.
تلعب الفلسفة الغربية في سياقها دور النقد . ما من شيء إلا ويخضع للتحليل النقدي، المؤسسات والدين والعقل نفسه . ذلك لأن المجتمعات الغربية مفتوحة على المستقبل أكثر من غيرها, لذلك يعتبر النقد فيها من جملة القيم الإيجابية . وأما ما يميز المجتمعات العربية الإسلامية فهو التفاتها إلى الماضي ، هناك يوجد مثلها الأعلى وعصرها الذهبي . نقد الموروث في هذا السياق يعتبر انسلاخا وعقوقا ، نقد الحاضر تهور وجنون . ربما ترجع معاناة إدريس إلى كونه فهم الفلسفة ومارسها كما لو كان غربيا يعيش في مجتمع غربي . مارسها على ذلك النحو « فأبعدته عن محيطه العائلي والطبيعي » ( ص 239 ) . وإذا كان لا يستطيع أن يغير الواقع فإنه عجز أيضا على محو المخزون من الذاكرة . لم يبق أمامه إلا اختيار واحد : التفكير في الذات من أجل الوعي بالبنية النظرية ومصادراتها الساسية التي تحدد اتجاهاته ومواقفه وتوجه سلوكه .
ذلك لأن الشخص الذي يحصل له الوعي بالخلفية النظرية لسلوكه لن يعود خاضعا لها, سيكون بإمكانه أن يختار عدم الانقياد لها . هذا هو المبدأ الذي تقوم عليه نظرية إعادة التأطير() تتحقق هذه العملية من خلال تغيير قانون التأليف المنظم للمصادرات التي تقوم عليهـا الشخصيـة باعتبارهـا وحـدة أو كلية . إعادة تركيب عناصر البنية على ضوء معطيات السياق بغرض التكيف , هذا ما سيحاول المؤلف القيام به بواسطة الراوي . يقول بهذا الصدد (ص 144): « الفلسفـات مثل القصور عند استباحتهـا ... قصـر فرعـون (وليلي الأثرية) الذي رفعت برخامه أساطين مسجد فاس ، قصر البديع الذي نقـل نقلا إلى مكناس , تنحل البنايات الشاهقة إلى أحجار يعاد قياسها وتنسيقها ، وتنفك الأفكار في الأذهان لتخدم أغراضا غير التي ركبت لها أول مرة » هل حصل ذلك عن وعي أم عن غير وعي ؟
كان وعيه في البداية هجينا ، منطقة تتخللها الظلال والأنوار، وعي تحركه الدوافع المضمرة أو المكبوتة , كان وعيا محتشما لشدة الميل إلى التبرير لإقناع النفس وإقناع الغير . نفى أن يكون إدريس قد مال إلى هذه الفلسفة أو تلك عن وعي واختيار: « لو لم يكن إدريس تابع دراسته في ثانوية مزدوجة كمولاي يوسف ، لو لم يتقن اللغة ، لو لم يعايش فترة كانت السيادة الفكرية فيها لمالرو وجيد وسارتر ... لما وجد في طريقه نتشه ... » ( ص 32 ) . اعتنق الفتى مذهب نتشه فانحط في عينه مقام المجتمع بما ينطوي عليه من أعراف وقيم . وفي المقابل وضع « قيمة الفرد المتحرر ذهنا وخلقا » في قمة الهرم القيمي . ومع ذلك ، يقول الراوي ، حافظ على بعض القيم الجماعية وعلى رأسها قيمة الوطنية , وبرر هذا التناقض بقولة نسبها إلى نتشه: « ناقض نفسك ، العب كل الأدوار ! .. الذهن غير المتقلب غير حر » . هذا تبرير , وهو أيضا محاولة لتبرئة الذمة ورد التهمة . اللجوء إلى التبرير كآلية دفاعية سمة من سمات شخصيته الثابتة . نجدها حاضرة في مختلف أنواع التعبير ، في التعبير على المستوى الثاني والثالث والرابع . يمثل التبرير في هذه الحالة ، على ما يبدو ، لحظة انتقالية في اتجاه إعادة التأطير .
الملاحظ أن اللجوء إلى التبرير يبرز بقوة كلما تعرض للحديث عن مسألة الوطنية والهوية ليعلن تشبثه بهذه القيم أكثر من غيره كما لو كان هناك من يتشكك في التزامه بها . وهكذا, فإذا كان نتشه قد نقد فكرة القومية فلأن القومية الألمانية في زمانه كانت رأي الأغلبية ، لذلك كانت معارضتها دليلا على حرية الفرد . وأما فكرة التضحية في سبيل الجماعة فكانت رأي الأقلية القليلة في سياق المجتمع المغربي على عهد الحماية ، لذلك التزم بها باعتبارها « عنوان ميل الفرد إلى الحياة المأسوية » خاصة وأن « الوطنية المضطهدة مفارقة ، ترفع ، مخاطرة » ( ص 33 ) . هذا تبرير، لأننا نعلم أن إدريس لا يخاطر بنفسه أبدا ( ص 41 ) . الفرق الجوهري بين نتشه والفتى المعجب به هو أن الأول نقد فكرة القومية ولكنه تطوع للدفاع عن القومية الألمانية خلال الحرب الفرنسية-الألمانية التي شارك فيها كممرض في هيأة الإسعاف ، وأصيب أثناء قيامه بواجبه القومي في ساحة الوغى بمرض خطير . وأما الثاني فرغم أنه حاول أن يظهر بمظهر الوطني المتطرف فإن الوطنية ظلت فكرة عالية التجريد لديه ، لذلك « عاش تجربة سياسية ولكن على مستوى الذهن فقط » ( ص 95 ) . ولم يتأجج شعوره الوطني إلا بعد أن لاحت في الأفق علامات انفراج الأزمة المغربية الفرنسية عام 1955, وذلك بعد أن تشكلت حكومة ماندس- فرانس التي « بعثت الأمل في النفوس » ( ص 96 ) . كان يحلم بالسلطة والنفوذ. وأصبح الآن يعرف أن حلمه لن يتحقق إلا في ظل المغرب المستقل . يعرف ذلك جيدا من أدرك منذ وقت مبكر أن السياسة هي فن التلون مع الواقع .
وكثيرا ما يقترن التبرير عنده بالإسقاط . نجد ذلك في مختلف مستويات التعبير. لقد وجد إدريس في الطلبة المغاربة الذين عاشرهم في فرنسا موضوعا يصب عليه مشاعره السلبية, كأنه يريد أن يقول : علي وعليهم يا رب ! . الإسقاط هنا رد فعل عدواني أيضا ضد من يعتقد أنهم شوهوا سمعته, ضد أولئك الذين رموه بالشيوعية وتشككوا في صدق مشاعره الوطنية واحتقروه. كل الصفات التي خلعها عليهم تكاد تنطبق عليه جملة وتفصيلا . يقول الراوي (ص 97): « شبان وكل شيء في أقوالهم يشي بالعجز والترهل باستمرار . إن ما يغلب عليهم هو تريث وتـردد الشيـوخ . يـرون في كـل حـادث جـانـب الخطـر وجانـب الفرصـة فيتساءلون كيف يتجنبون الأول ويستفيدون من الثانـي ، لا يقتربـون كثيـرا لكـي لا تحرقهم النار ولا يبتعدون ليكونوا حاضرين وقت الجـزاء » .ويضيف قائلا : « هـؤلاء أخطـأوا في حساباتهم , ظنوا أن فرنسا لن تتراجع عي سياستها على المـدى القريب وأن الاستقلال بات بعيدا إن لم يكن مستحيلا … فاستعدوا للوضع الجديد » (ص. 98) . وصفهم إدريس ( ص 112 ) بالفوضويين الذين « يعيشون موضوعيا في حالة انشطار وانفصام، يعارضون النظام الاستعماري ويستفيـدون منـه في نفس الوقت ، يثـورون ضد آبائهم المتعاونيـن مع المستعمـر وفي نفس الوقت يوظفون، سرا أو علانيا ، ذلك التعـاون لمصلحتهم, يلمسون في تصرف أقاربهم أن الدين وسيلة من وسائل استغـلال الجماهيـر فيـرونـه عقبـة في طريق التطور ... يتشدقون باسم الشعب ولكنهم يسمونه في نفس اللحظة بجمـود لا سبيل لكسره , يظهرون التعلق بالتقاليد المغربية في الملبس والمسكـن والمأكـل ومع ذلك أفئدتهم مملوءة بما تعلموه من أساتذتهم الأجانب إذ تخرجـوا جميعـا مـن الثانويات الفرنسية » .
كان ذلك عام 1956 بعد إعلان الاستقلال . يأخذ عليهم أنهم لم ينضووا تحت راية أي حزب ولم يلتزموا بموقف سياسي محدد . هذه الآراء والمواقف كرسها إدريس قبل أن تظهر له علامات فجر الاستقلال . اعترف الراوي بذلك كله ولكنه حاول أن يؤول الخطاب بغرض إعادة التأطير . كان إدريس في نظره « يطالب بالصدق في الفكر مهما كان . ينتقد هو نفسه الدين كممارسة سياسية . لكن عندما يقرأ نفس النقد بقلم الكاتب المغربي يتضايق منه لأنه لا يطمئن لحسن نية قائله كما يطمئن إلى حسن نيته هو » ( ص 114 ) . سوء الظن بالآخرين سمة من سمات شخصيته الثابتة الدالة على ميله الشديد إلى الارتياب . يقترن هذا الميل عنده بنزعة التمركز حول الذات , فهو وحده صادق فيما يقول. بإمكان جميع الناس أن يدركوا الحقيقة ، ولكن ليس كل من يقول الحقيقة صادق . هذا مع العلم أنه يضع قيمة الصدق في مرتبة أعلى من المرتبة التي تحتلها قيمة الحقيقة في منظومته القيمية . فلا قيمة للحقيقة عنده إذا خلت من ظواهر الصدق ( ص 98 ) . كان يعتقد أنه الشخص الوحيد الذي يجمع بين الحقيقة والصدق . إننا نعترف لابن الصديقية بهذه المزايا ، فلو لم يكن صادقا لما نشر « أوراق » . نعترف له بذلك، إلا أننا نرى أنه عمم الحكم وجعل قيمة الصدق حكرا عليه . وهو موقف يوحي بأنه مصاب بجنون العظمة .
ما قلناه عن كيفية تعامله مع المسألة الوطنية ينطبق على كيفية تعامله مع مسألة الهوية في تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب . لقد حاول في تلك الفترة من حياته أن يقدم عن نفسه صورة المسلم المتطرف في دفاعه عن الهوية . لقد أدى بـه تطرفـه الوطنـي الظاهـر إلى تقديس كل ما ينحدر من الماضي ومناهضة كل من نقد وضعية المسلمين في عهد الانحطاط حتى ولو كان من ذوي النزعة الأصولية مثل مالك بنابي (ص132 ) . لقد نصب نفسه كمدافع عن الأصول . تبنى هذا الدور في سجاله مع مـن رأى فيهم خصـوم الإسلام ومع المدافعين عنه في نفس الوقت . واستعمل أسلوب المزايدة لإبراز دوره الجديد . المزايدة التي ربما تحكمت فيها آليات التصعيد والرغبة في احتلال مكان الصدارة في الأيديولوجيا التي ستهيمن على الساحة السياسية والثقافية في مرحلة ما بعد الاستقلال . كل ذلك من أجل تحقيق طموحه القديم
5 -  الخروج من عنق الزجاجة
من أجل تحقيق هذا الغرض سيقوم بإعادة تأطير مرجعياته . سيحاول ذلك من خلال إعادة توظيف فلسفة شوبنهور والفكر الرومانسي على العموم ، وذلك في ضوء قراءة جديدة لنتشه . يمكنه الآن أن يستعمل نتشه من أجل مواجهة الغرب وإثبات الهوية , نتشه الذي أصبح « على رأس الغربيين أعداء الغرب في عهد استعلائه وغروره وعنصريته » , نتشه الذي يدعو إلى العودة إلى الأصل ، إلى وحدة الغرب والشرق ، الإنسان والكون ، الفلسفة والدين ، « به وحده نستطيع أن ندرك مغزى انهيار الأمبريالية الذي هو في الواقع نهاية التمييز والتمزيق، الغلبة والإخضاع ، وبالتالي فرصة العودة إلى الوحدة والتصالح » ( ص 144 ) . وليس هذا فحسب , إن القيم التي دعا إليها نتشه هي في الحقيقة قيم العرب الأصيلة ( ص 35 ) بما في ذلك قيم التقنع ولعب الأدوار والتمثيل . هذا « الاتفاق العجيب » هو الذي سير إدريس إلى نتشه . إن الشبيه يجتذب إليه الشبيه . نجد في أوراق إدريس ما يدل على ذلك: « قيل إن الإفرنج تعلموا من عرب الشام والأندلس الشجاعة والفروسية ومباركة الحياة . منهم تسربت الجراثيم التي قضت على المسيحية وأحيت قيم العالم القديم » ( ص 36 - 35 ) . حتى الحب العذري من اختراع العرب « غزا الحجاز ثم انتقل إلى العراق ومنه إلى الأندلس ومن هناك تسرب إلى جنوب فرنسا وإيطاليا ثم إلى سائر أوروبا » . « إننا أحيانا نجد متاعنا عند غيرنا » ( ص 87 ). « نتشه إذن هو المدخل المعاصر للعقيدة الحديثة لأنه قضى على الفكر الإنسوي الحديث » . وهكذا, « بالعودة إلى نتشه استقل الفيلسوف وتحرر، بدأ يقول أنا وحدي المتخصص في الأصول » (ص 35).
فلسفة نتشه إذن فلسفة شرقية في العمق , وكذلك فلسفة أستاذه شوبنهور . يقول هذا الأخير: ليس الإنسان سيد الكون ، ويقول الشرق « ليس الإنسان رب الكون وإنما هو مخلوق يخلق بدوره كونا خادعا يلهي ويعمي ويصم عن الكون الأصلي ... » , إنه التناص . وهكذا ، فإذا كانت الفلسفة الغربية المؤسسة لثقافة ما بعد الحداثة شرقية عربية في العمق فإن الإسلام غربي. ربما كان الإسلام « شرق الغرب » أو « غرب الشرق » . ربما كان « غربي الفكر شرقي النظام » . ومهما يكن من أمر ذلك فإن التاريخ يشهد أن « الإسلام عقلاني أي غربي حسب العرف » ( ص 145 ) . يشير مفهوم العقلانية هنا حسب المؤلف إلى العقل بمعناه الاقتصادي, « العقل عند إدريس هو روح الاقتصاد » . في الاقتصاد يتجلى العقل كمبدأ منظم ، وتتجلى الإرادة في مجالات التاريخ والسياسة . في هذه المجالات وحدها يتحرر الجهد من ضوابط العقل. والنتيجة في نظر شعيب هي أن إدريس باختياره وفهمه « وفي للأجداد وغيره عاق » ( ص 146 ) .
في هذه اللحظة بالذات ، عندما كان يراجع نفسه ويتهيأ للصلح ، في شتاء 1955 وبعيد إعلان الاستقلال وقع في « أزمة غيرت مجرى حياته » ( ص 147 ) . كانت الأزمة نتاج تفاعل عوامل كثيرة ، منها الإخفاق في حياته العاطفية ، والشعور بالخيبة لما رأى الطلبة الذين ندد بهم يتولون المناصب العليا في البلاد . بقي هو في باريس لمتابعة الدراسة حتى الامتحان النهائي. ماذا سيجد المثقف المتطلع إلى المقام الرفيع في صفوف النخبة السياسية بعد رجوعه إلى المغرب؟ كان عليه أن يقنع بوظيفة التدريس التي احتقرها من قبل . من هنا الشعور بالخيبة والإحباط واليأس , إخفاقه في ميدان العلاقات الجنسية يرجع إلى صورته في ذهن الغير كما يتخيلها وإلى صورته عن ذاته . الذات المنتفخة ، جنون العظمة ، الكبرياء والطموح السياسي الذي ربما دل على شخصية سلطويـة هي العوامـل التي تفسر الإخفـاق . يريـد أن تكون المرأة على صورته ، يشتاق إليها ، يلهث خلفها كمن يطارد الأطياف . وعندما تجمعه بها الأقدار يحجم ويصد الأبواب, يناور من أجل إبعادها عنه ، ويشعر بالمتعة عند الفراق : « فارقها مزهوا كمن خرج منتصرا من معركة حاسمة » ( ص 84 ) . ثم يلهث خلفها من جديد . يكتب الرسائل تلو الرسائل ولا تجيب . يراسل الأشباح , وتتحول الرسائل إلى كتابات أدبية . هكذا يحقق الرغبة عبر التصعيد. ولكنه يتقيض غما عندما يرى الطلبة مع خليلاتهم يرقصون، ينزوي في قاعة مظلمة ، هناك يدغدغ عواطفه ويطفئ شهوات نفسه ، وربما لجأ إلى سوق النساء (ص 78 - 77) . وعندما تشتد الأزمة يستولي عليه هوس السياسة ، فيها سيعوض عن الممتنع . يقول إدريس : « وبغتة يطل شبح السياسة , هي أصل التعقيد مع الكبرياء , هنا أحلم بحياة غربة وصمود، هناك تنتظرني حياة غبطـة وهنـاء , يهيئـون الخـوان من أجلي ويستعـدون لأخذ مقاعدهم حولـه » (ص 84) .
ولكن أحلامه تبخرت حين دقت ساعة الخيبة بإعلان الاستقلال فاتجه نحو الكتابة . يؤكد شعيب أنه « لو لم تخب آماله السياسية لما اتجه نحو التعبير » ( ص 165 ) . أتجه إليه حين طرد من الساحة العمومية , فاستحوذت عليه مشاعر اليأس والتشاؤم فعاد إلى شوبنهور عبر بروست , وراح يتقمص شخصيته وينظر إلى العالم من بمنظاره . إنها الأزمة التي تتخلل مراحل الانتقال من عهد الصبا وأحلامه الدافئة إلى مرحلة النضج التي ترمز إليها قيم الصلح والواقعية . هكذا فهم الراوي المشكلة ، وهو فهم يسير في اتجاه إعادة التأطير الكاملة . وسوف يستغل شوبنهور كقنطرة للعبور, واستغل كل الرومنسيين الذين قالوا بالتصالح ليبرر التحول في الموقف ويعطيه أساسا فلسفيا .
مأساة إدريس من نوع المآسي الوجودية العميقة . كانت ستقوده توا إلى الانتحار والموت لولا قدرته الكبيرة على التصعيد ، لولا أن « المأساة تنحل في التاريخ » . ليست هذه فلسفة ألمانية « هذه جملة من كلامنا العادي , أو هكذا يحلو لي أن أفهمها » (ص 230) . لا ضير إن كانت العبارة غربية طالما أن المأساة تنحل في التاريخ عبر الصلح . وهل يحتاج من يسعى إلى الصلح إلى تبرير مسعاه الحميد ؟ وهل هناك قيمة أكثر كونية من قيمة الصلح ؟ كل الرومنسيين وعلى رأسهم غوته ومن بعده شوبنهور آمنوا بالصلح . حتى الاستعمار تصالح مع الوضع القديم . كل واحد عقد الصلح على انفراد. لماذا إذن لا يفعل ما فعل جميع من سبقوه ؟ هكذا فكر إدريس , يقول الراوي , على باب المحطة. المحطة نقطة عبور ، العبور من مرحلة الإيمان بالمبدأ إلى رحاب الواقعية . فيرا التي غادرها على باب المحطة بعد زيارة دار غوته رمز للإيمان . فيرا ، هذا الاسم الجميل ، « كلمة سلافية تعني الإيمان » ( ص 232 ) . لم يقل اسما بل قال كلمة .
عقد الصلح ونام نومه الأخير . المنطق الذي سيره نحو هذا المصير هو منطق الاستلاب. إن الآليات النفسية التي تحكمت في عمليات التبرير هي آليات إعادة التأطير التي تستهدف تغيير المصادرات الأساسية الضمنية التي تحدد النظرة إلى العالم , تلك النظرة التي تتسبب في العزلة والمعاناة . لقد كان في حاجة إلى تبرير التحول وتغيير الاتجاه وصورته الاجتماعية بما يضمن الحفاظ على توازن الشخصية . ربما اقترن استخدام هذه الآليات بظهور شكل من أشكال الاستلاب يسمى فقدان المعايير . يظهر هذا الاستلاب ابتداء من الخامسة والثلاثين من العمر ويشتد بعد الأربعين في سياق مجتمعنا الإسلامي حسب دواسة أجريناها في الموضوع لم يكتب لها أن تنشر بعد . سنة الله في عباده المؤمنين ! لم يفلت منها المثقف فما بالك بالدهماء ومن هم بين بين . وربما تكون هذه الظاهرة هي النواة التي تتشكل حولها أزمة المثقفين العرب .
أسفي عليك إدريس قضى نحبك في سن الأربعين ! كرهتك قبل أن أقرأ أوراقك، عندما قرأت الكتب التي ألفها الكهل النسخة المشوهة منك . وأحببتك بعد قراءة الأوراق لأنك كنت صادقا ولأنني أشفقت عليك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق