السفناج” حرفة تقليدية أصيلة لها مرجعيتها التراثية
مازالت
الأحياء القديمة في جل المدن المغربية، خاصة منها العتيقة، تنبض بنمط
حياة وتاريخ وتقاليد قائمة منذ مئات السنين. ومن مظاهر ذلك إحدى الحرف
التقليدية، السائرة في طريق الزوال، ألا وهي “السفناج”. وهي حرفة صناعة
وبيع الإسفنج أو “السفنج”، كما يسميه المغاربة؛ ونقصد هنا بالإسفنج تلك
الفطائر المقلية اللذيذة، والتي لا يربطها بباقي مسميات الإسفنج – من
الإسفنج النباتي والحيواني والصناعي- إلا أوجه الشبه من حيث كثرة الثقوب
والانتفاخ.
ويعود أصل الفطائر المقلية، بصفة عامة، إلى قرون خلت، لا تعرف بدايتها
بالتحديد. ويعتقد أنها اكتشفت بالصدفة، نتيجة سقوط قطعة عجين، سهوا، في
مقلاة زيت ساخن؛ ومن شبه المؤكد أنها ظهرت في أوروبا أولا، ومنها انتشرت
إلى باقي ربوع العالم، فاتخذت لها أشكالا ومسميات مختلفة (بالفرنسية :
Beignets ، بالإنجليزية: Doughnuts ، بالتركية: Borek ، بالروسية: Ponchiki
، بالأسبانية: Bu?uelos ، بالإيطالية: Frittelle ، الخ…). وقد شهدت فرنسا
في القرن الثالث عشر ميلادي انتشار صنع وبيع نوع من هذه الفطائر، على شكل
قطع صغيرة. ولم تظهر الفطائر المقلية المحلاة بالسكر إلا في القرن الثامن
عشر ميلادي.
وعرف الأندلسيون بالعناية بالطبخ، والتفنن فيه؛ وقد أبدعوا فيه ألوانا وألوانا. وقد ازدهر عندهم “السفنج” بنفس المسميات والعادات، وعلى الطريقة التي مازالت قائمة في المغرب ضمن الموروث الثقافي والحضاري الأندلسي الغني والمتنوع، من موسيقى وأزياء وأطعمة وصناعات تقليدية متعددة وغير ذلك من التقاليد والعادات. فمن الأمثال الأندلسية: “سفّج لي نعسّل لك”. ويقول شاعر أندلسي في وصف بائعي السفنج في الأندلس:
وسفاجين تحسبهم ملوكا صعدوا منابرهم جلوسا
وإذا كان من شبه المؤكد أن أصل “السفنج” بالمغرب هو الأندلس، فإنه من غير المؤكد أن يكون قد جاء مع النازحين من الأندلس بعد سقوطها في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي (1492م). فحسب دراسة للأستاذ إبراهيم حركات حول “الحياة الاجتماعية في عصر بني مرين”، كان الإسفنج معروفا في عصر بني مرين (1270م – 1465م)، بل قبل ذلك بكثير. فقد تحدث مؤلف “زهرة الآس” عن وجود باعة الإسفنج قبل بني مرين. هذا إضافة إلى أن معظم باعة السفنج، إن لم يكن جلهم، لا ينحدر من أصول أندلسية، على عكس باقي الحرف الوافدة من الأندلس، بل أغلبهم من الأمازيغيين. ومعلوم أن عددا كبيرا من الأمازيغيين هاجر إلى الأندلس، وكان أهلها يلقبونهم بالبربر. والغريب في الأمر أن مناطق القبائل الأمازيغية لا تنتشر فيها صناعة السفنج؛ ربما بسبب طابعها الريفي الذي لا يتناسب وحرفة تقتضي الإنتاج والاستهلاك الفوري؛ وربما، كذلك، كان ذلك وراء ظهور نوع من السفنج الجاف في هذه المناطق، كان يعرف ب”تيبلخار”، وهو على شكل دوائر من البيسكوت ترص في شريط مثل السفنج العادي.
ومهما يكن، فإن ظاهرة “السفنج” كانت منتشرة في أقطار المغرب وتونس والجزائر. ففي الجزائر كان يطلق على صانع وبائع السفنج “التونسي”، وكما يدل على ذلك هذا الاسم فقد كان معظم باعة الإسفنج في الجزائر من التونسيين؛ وبالتالي، فقد تكون هذه الحرفة دخلت إلى الجزائر من تونس.
وعرف عن الشاعر التونسي الراحل منور صمادح أنه زاول، من بين عدة حرف، حرفة بائع الفطائر. وقال عن الجرائد، في مقدمة ديوانه “صراع”، أنها “حاوية أدب وفطائر”؛ فقد كانت الفطائر، هناك، تلف في بقايا الصحف.
ظاهرة السفنج من العادات والتقاليد التي ظلت مترسخة في وجدان أجيال من المغاربة، الذين شبوا وترعرعوا في الأحياء القديمة وأزقة المدن العتيقة على السفنج كواحدة من الأكلات الشعبية المحببة، والتي كانت ترفق بكؤوس الشاي الأخضر المنعنع. كان السفناج والفرن والحمام التقليديين من المرافق الأساسية في هذه الأحياء. وتكون أرضية دكان السفناج مرتفعة عن مستوى الأرض بأزيد من متر، حيث يجلس السفناج متربعا أمام مقلاته الكبيرة، على مستوى أعلى بقليل من زبنائه المتراصين حول باب دكانه في نصف حلقة؛ فيتمكن بذلك من رؤية آخرهم، ويتمكن الزبناء بدورهم من رؤيته. ومن هذا الموقع، كان الزبون يناديه برفع يده ليذكره بدوره أو بطلبه الخاص، من حيث حجم السفنجات أو نوعها. ومن كثرة ما كانت ترفع الأيدي بهذه الطريقة، أطلق البعض على السفناج لقب هتلر.
فمن غبش الفجر، ومع زقاء الديوك، يبدأ باعة السفنج فتح محلاتهم. أما عملهم فيبدأ عند منتصف الليل بإعداد العجين، الذي لا يحتوي إلا على الدقيق والملح والخميرة. ومن العادات التي عرفت بها هذه الحرفة ما كان يسمى “عباسية السفنج”، حيث كان السفناج يقدم السفنجات الأولى بالمجان، وخاصة للطلبة والفقراء. أما أنواع السفنج الذي كان يعده، فكان هناك السفنج العادي، والذي يمكن أن يزيد في حجمه أو ينقص حسب طلب الزبون؛ وهناك “السفنجة المطفية”، وهي السفنجة التي يدقها السفناج بيده بعد أن تنضج ثم يعيدها للقلي ثانية، فيتقلص بذلك العجين النيئ داخلها، وهناك أيضا “السفنجة المطفية بالبيض”، وهي سفنجة تدق كذلك بعد طهيها ويضاف فوقها محتوى بيضة، فيعاد طهيها.
وبخصوص طريقة إعداد السفنج، فقد كان السفناج يأخذ من العجين، المكوم في إناء بجانبه، قطعة يدلكها ويكورها بين راحة يديه، ثم يضغط عليها بقبضة يده اليمنى حتى يخرج جزء كروي منها من أعلى قبضته، فينثره باليد اليسرى ويصنع منه بخفة عجيبة دائرة مخرومة يلقي بها في مقلاة الزيت الساخن، ويكرر العملية إلى أن ينفذ العجين الذي بيده أو تمتلئ المقلاة. وعندما ينضج الوجه السفلي للسفنجات، يقلبها على الوجه الآخر بقضيب حديدي يسمى “المخطاف”، والذي يخطفها به خطفا عندما تحمر من الوجهين وتنتفخ ليلقي بها في إناء للتقطير محاد للمقلاة. ويقوم مساعد السفناج بكيل السفنج للزبناء في ميزان، ثم يرصها، على شكل عقد كبير، في شريط من الدوم يسمى “الشرك”، حتى يتمكن الزبون من حملها بأحد أصابعه دون أن تحتك بملابسه.
ومن الأمثال الشعبية المغربية حول السفنج: “صاب سفنجة وقال عوجة”، ومعناه وجد إسفنجة وكان جائعا ومع ذلك راح يعيب شكلها؛ “ابحال إلى ضربتي كلب باسفنجة”، ومعناه كمن يضرب كلبا بإسفنجة قاصدا ألمه في حين يصيب الكلب مبتغاه بأكلها؛ “تاتطلب الزيت من سفناج”، ومعناه كيف تطلب من السفناج زيتا وهو أحوج الناس إليه.
ورغم أن هذه الحرفة التقليدية، الممتدة عبر تاريخ تليد، آخذة في الزوال؛ فإن هناك في المقابل إقبال متزايد على وصفات إعداد السفنج، خاصة عبر الأنترنت، من قبل العديد من المغاربة في المهجر، وكل الذين يذكرهم بأيام خوالي ودفء الذكريات، ولسان حالهم يردد قول الشاعر:
ولي إلى الإسفنج لشو ق دائم يطربني
ودابا نخليكم مع واحد طبسيل الشفنج وبراد اتاي وبالصحة والراحة
وعرف الأندلسيون بالعناية بالطبخ، والتفنن فيه؛ وقد أبدعوا فيه ألوانا وألوانا. وقد ازدهر عندهم “السفنج” بنفس المسميات والعادات، وعلى الطريقة التي مازالت قائمة في المغرب ضمن الموروث الثقافي والحضاري الأندلسي الغني والمتنوع، من موسيقى وأزياء وأطعمة وصناعات تقليدية متعددة وغير ذلك من التقاليد والعادات. فمن الأمثال الأندلسية: “سفّج لي نعسّل لك”. ويقول شاعر أندلسي في وصف بائعي السفنج في الأندلس:
وسفاجين تحسبهم ملوكا صعدوا منابرهم جلوسا
وإذا كان من شبه المؤكد أن أصل “السفنج” بالمغرب هو الأندلس، فإنه من غير المؤكد أن يكون قد جاء مع النازحين من الأندلس بعد سقوطها في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي (1492م). فحسب دراسة للأستاذ إبراهيم حركات حول “الحياة الاجتماعية في عصر بني مرين”، كان الإسفنج معروفا في عصر بني مرين (1270م – 1465م)، بل قبل ذلك بكثير. فقد تحدث مؤلف “زهرة الآس” عن وجود باعة الإسفنج قبل بني مرين. هذا إضافة إلى أن معظم باعة السفنج، إن لم يكن جلهم، لا ينحدر من أصول أندلسية، على عكس باقي الحرف الوافدة من الأندلس، بل أغلبهم من الأمازيغيين. ومعلوم أن عددا كبيرا من الأمازيغيين هاجر إلى الأندلس، وكان أهلها يلقبونهم بالبربر. والغريب في الأمر أن مناطق القبائل الأمازيغية لا تنتشر فيها صناعة السفنج؛ ربما بسبب طابعها الريفي الذي لا يتناسب وحرفة تقتضي الإنتاج والاستهلاك الفوري؛ وربما، كذلك، كان ذلك وراء ظهور نوع من السفنج الجاف في هذه المناطق، كان يعرف ب”تيبلخار”، وهو على شكل دوائر من البيسكوت ترص في شريط مثل السفنج العادي.
ومهما يكن، فإن ظاهرة “السفنج” كانت منتشرة في أقطار المغرب وتونس والجزائر. ففي الجزائر كان يطلق على صانع وبائع السفنج “التونسي”، وكما يدل على ذلك هذا الاسم فقد كان معظم باعة الإسفنج في الجزائر من التونسيين؛ وبالتالي، فقد تكون هذه الحرفة دخلت إلى الجزائر من تونس.
وعرف عن الشاعر التونسي الراحل منور صمادح أنه زاول، من بين عدة حرف، حرفة بائع الفطائر. وقال عن الجرائد، في مقدمة ديوانه “صراع”، أنها “حاوية أدب وفطائر”؛ فقد كانت الفطائر، هناك، تلف في بقايا الصحف.
ظاهرة السفنج من العادات والتقاليد التي ظلت مترسخة في وجدان أجيال من المغاربة، الذين شبوا وترعرعوا في الأحياء القديمة وأزقة المدن العتيقة على السفنج كواحدة من الأكلات الشعبية المحببة، والتي كانت ترفق بكؤوس الشاي الأخضر المنعنع. كان السفناج والفرن والحمام التقليديين من المرافق الأساسية في هذه الأحياء. وتكون أرضية دكان السفناج مرتفعة عن مستوى الأرض بأزيد من متر، حيث يجلس السفناج متربعا أمام مقلاته الكبيرة، على مستوى أعلى بقليل من زبنائه المتراصين حول باب دكانه في نصف حلقة؛ فيتمكن بذلك من رؤية آخرهم، ويتمكن الزبناء بدورهم من رؤيته. ومن هذا الموقع، كان الزبون يناديه برفع يده ليذكره بدوره أو بطلبه الخاص، من حيث حجم السفنجات أو نوعها. ومن كثرة ما كانت ترفع الأيدي بهذه الطريقة، أطلق البعض على السفناج لقب هتلر.
فمن غبش الفجر، ومع زقاء الديوك، يبدأ باعة السفنج فتح محلاتهم. أما عملهم فيبدأ عند منتصف الليل بإعداد العجين، الذي لا يحتوي إلا على الدقيق والملح والخميرة. ومن العادات التي عرفت بها هذه الحرفة ما كان يسمى “عباسية السفنج”، حيث كان السفناج يقدم السفنجات الأولى بالمجان، وخاصة للطلبة والفقراء. أما أنواع السفنج الذي كان يعده، فكان هناك السفنج العادي، والذي يمكن أن يزيد في حجمه أو ينقص حسب طلب الزبون؛ وهناك “السفنجة المطفية”، وهي السفنجة التي يدقها السفناج بيده بعد أن تنضج ثم يعيدها للقلي ثانية، فيتقلص بذلك العجين النيئ داخلها، وهناك أيضا “السفنجة المطفية بالبيض”، وهي سفنجة تدق كذلك بعد طهيها ويضاف فوقها محتوى بيضة، فيعاد طهيها.
وبخصوص طريقة إعداد السفنج، فقد كان السفناج يأخذ من العجين، المكوم في إناء بجانبه، قطعة يدلكها ويكورها بين راحة يديه، ثم يضغط عليها بقبضة يده اليمنى حتى يخرج جزء كروي منها من أعلى قبضته، فينثره باليد اليسرى ويصنع منه بخفة عجيبة دائرة مخرومة يلقي بها في مقلاة الزيت الساخن، ويكرر العملية إلى أن ينفذ العجين الذي بيده أو تمتلئ المقلاة. وعندما ينضج الوجه السفلي للسفنجات، يقلبها على الوجه الآخر بقضيب حديدي يسمى “المخطاف”، والذي يخطفها به خطفا عندما تحمر من الوجهين وتنتفخ ليلقي بها في إناء للتقطير محاد للمقلاة. ويقوم مساعد السفناج بكيل السفنج للزبناء في ميزان، ثم يرصها، على شكل عقد كبير، في شريط من الدوم يسمى “الشرك”، حتى يتمكن الزبون من حملها بأحد أصابعه دون أن تحتك بملابسه.
ومن الأمثال الشعبية المغربية حول السفنج: “صاب سفنجة وقال عوجة”، ومعناه وجد إسفنجة وكان جائعا ومع ذلك راح يعيب شكلها؛ “ابحال إلى ضربتي كلب باسفنجة”، ومعناه كمن يضرب كلبا بإسفنجة قاصدا ألمه في حين يصيب الكلب مبتغاه بأكلها؛ “تاتطلب الزيت من سفناج”، ومعناه كيف تطلب من السفناج زيتا وهو أحوج الناس إليه.
ورغم أن هذه الحرفة التقليدية، الممتدة عبر تاريخ تليد، آخذة في الزوال؛ فإن هناك في المقابل إقبال متزايد على وصفات إعداد السفنج، خاصة عبر الأنترنت، من قبل العديد من المغاربة في المهجر، وكل الذين يذكرهم بأيام خوالي ودفء الذكريات، ولسان حالهم يردد قول الشاعر:
ولي إلى الإسفنج لشو ق دائم يطربني
ودابا نخليكم مع واحد طبسيل الشفنج وبراد اتاي وبالصحة والراحة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق