الخميس، 1 نوفمبر 2012

شعر الملحون

| | 


شعر الملحون

أو الفنّ الشعري الذي وافق الروح المغربية!

   عبد اللّطيف الوراري

 malhoun.jpg

     حجاب ابن رشد:

    كان فنَّ الموشّح قد بلغ شَأْواً ذا اعتبار، ونازعَ سلطة المركز الشعري، ونزع اللغة الفصحى من قُدسيّتها، وراح ينتزع باستمرار اعتراف المدوّنة النقدية كـ "فعل شعريّ" يتمرّد على أعاريض الشعر التقليدي، ويخلق نِسَباً إيقاعيّةً جديدة في توزيع البنية المكانية والزمانية، وأوفر مجالاً ممّا كانت تسمحُ به البنية القديمة والمغلقة وغير المتسامحة لنمط البيت الأصلي.

لم يهتمّ ابن رشد (ت 595هـ/ 1198م)بالموشّحات ولا الأزجال في معرض حديثه عن "الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة"، ولا انشغل قطُّ بإيقاع هذه الأشعار رغم أنّه اجتمعت فيها هذه الثلاثة بأسرها، في نظره: وجود النغم في المزامير، والوزن في الرقص، والمحاكاة في اللفظ. لم تكن تعني تلك الأشعار للفيلسوف المهموم ببحث الكليّات وشرحها وصوغ القوانين الفلسفية والمنطقية التي ورثها عن أرسطو سوى تلك الإشارة العابرة، وهي التي تتمّ في الهامش، وعلى أفواه العوامّ أيضاً. ورُبّما كان السبب الرنيس أنّ موقفه من الشعر العربي الذي لم يكن يعرف سواه هو أقرب إلى التحفظ، وغالباً ما كان يصدر في أغراضه، إجمالاً، أحكاماً قيمية أخلاقية، ذات بُعدٍ تربويٍّ ـ بيداغوجيّ، مُسْتوحىً بدرجات متفاوتة من الموقف القرآني، والموقف الأفلاطوني المعبّر عنه في كتاب الجمهورية الذي لخّصهُ وصدر تحت عنوان الضروري في السياسة.

 

الأنواع الشعرية غير المعربة:

إلى جانب الموشَّح، صنَّف القدماء في ذلك العصر، من أمثال صفي الدين الحلّي (ت 750هـ/ 1349م)، وابن سعيد الأندلسي (ت 685هـ/ 1286م)، وابن حجّة الحموي (ت 837هـ/1432م)، والأبشيهي (ت 850هـ/ 1446م)، الزّجَل مع المواليا والقوما والكان وكان، ضمن ماسمَّوه الفنون الشعرية الملحونة أو غير المُعْرَبة، وهي أشكالٌ من النظم الشعري لم يلتزم أصحابُهُ فيه بنُظُم اللغة الفصحى المعيارية وقواعدها التركيبيّة، وإن كانوا أدمجوها في قوالب متنوّعة من البناء من حيث كثرة عدد الأقسام وأشطار وحداتها المنظومة، ومن حيث التنوّع في التقسيم الموسيقي لعناصرها المتوازية. وكان ابن خلدون قد كتب يقول: "ولمّا شاع فنّ التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وتصريع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيه إعراباً، واستحدثوا فنّاً سمّوه الزجل والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاؤوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة". فالزجل نشأ في أثر الموشح واقترض بناه الفنية وتجاوبا معاً،ولم يكن النظم في الزجل دليل عَجْزٍ من شعراء العامّية، بل نظموه عن موهبة واقتدار على القول فيه، حتى أنّ منهم من كان ينظم القريض والموشّح نفسه. وكان أبو بكر بن قزمان (ت 554هـ) إمام الزجّالين بالأندلس، وهو الذي اخترع الزجل، وجعل إعرابه لحنه، فامتَدّت إليه الأيدي، وعقدت الخناصرُ عليه".

الزّجل، المواليا، الدوبيت، القوما والكان وكان هي أهمّ الأنواع الشعرية غير المعربة التي ذكرتها المصادر، اُعطيت لبعضها مرتبة عليا، وأوجز الحديث في البعض الآخر؛ فيما لم تُشِرْ إلى نَوْعٍ ثالثٍ مُهْمل مثل الحجازي والحماق. عدا أن تلك الأنواع قد اختلفت تسمياتها من مكان في المغرب إلى آخر في المشرق، وحتى داخل المكان نفسه. والجدير بالذّكر، فإنّ الأنواع الواردة في تصنيفاتهم ليست هي كلُّ الأنواع التي استحدثت؛ فهناك أنواع كثيرة لم تكن قد تشكّلتْ بعد، وأخرى قد تكون أكثر محلّيةً لم تستطع الانتشار خارج المناطق التي نشأت فيها. وقد سبق لابن خلدون أن ذكر أنّ المغاربة استحدثوا نوعاً جديداً مزدوجاً سمّوه "عروض البلد" ثُمّ جعلوا منه أنواعاً أخرى سمّوها المزدوج، والكازي، والملعبة، والغزل. إلّا أنّ المشهور عند المغاربة من هذه الأنواع هو شعر الملحون الذي طبقت شهرته الآفاق بأرض المغارب، ولم يجد ما يوازيه في عمل الرعيل الأول من الدارسين.

 

شعر الملحون:

الملحون هو نَوْعٌ شعريٌّ غير معرب، بعضهم يرى أنّه مُشتقٌّ من اللحن الذي يُفيد الخطأ اللغوي بوصفه من النظم غير المعرب، فكان المغاربة يستعملون الملحون في مقابل المعرب، وبعضهم رأى في اللحن إلى ما يُفيد التلحين والتنغيم بوصفه يُنْظم لكي يُتغذّى به قبل كلّ شيء كما أشار إليه محمد الفاسي (1908-1997م) في مقالاته الرائدة عن الملحون، ويحتمل المعنى عند البعض الآخر الوجهين معاً، فهو إمّا سمي بذلك لارتكاب الشعراء الشعبيين أخطاء نحوية، أي أنهم ابتعدوا عن الفصيح للغة العربية وأصولها، وإما أنه سمي بذلك لتغني الشعراء الشعبيين به. وتشير المصادر إلى أن أول بواكيره قد ظهرت في عصر الموحدين، أي في القرن السابع للهجرة، وتطوّر عن فنّ الزجل في إطار التحرُّر من أعاريض النظام الخليلي وصرامة الفصحى وأصولها، مُوجداً لنفسه مقاييس إيقاعية تكون قادرة على تحقيق الملاءمة بين الشعر واللحن.

لقد كانت للمغاربة تفعيلات خاصة يزنون بها أشعارهم أساسها النغم والإيقاع يطلقون عليها "الصروف" وهي نوعان "الدندنة" و"مالي مالي". ونظروا إلى العروض كمجموعةٍ من القياسات (=الميازين) داخل كلِّ بحر من البحور (= لمرمّات)، وأشهرها عندهم: المبيت، ومكسور الجناح، والمشتب، والسوسي أو المزلوك، فيما اكتشف محمد الفاسي نمطاً خامساً هو الذكر. وتبرز هذه الأنماط من شعر الملحون، الذي كان أغلبه شعراً شفويّاً على أفواه الحُفّاظ، عن ثراءٍ إيقاعيٍّ يمتزج فيه ما هو جماليّ ـ تصويري بما هو موسيقي على نحْوٍ خلّاق، بعد أن اكتملت الصورة الفنية لقصيدة الملحون، وهو ما لم يتمَّ الكشف عنه إلّا حديثاً عند بعض الدارسين الجدد لهذا الفنّ الشعري بالغ الثراء وذائع الشبق، بمن فيهم الباحث والزجّال محمد الراشق الذي قال إنّ القصيدة قد سلكت "نفس النهج الذي ابتدأت به قصيدة الشعر المعرب القديمة، خصوصاً في الجانب الشكلي المتعلّق بهندسة الفضاء وتشكيله". لم تعدم قصيدة الملحون، عدا موسيقاها الغامرة بحبّ منشديها، آليات الحكي والحوار والتشخيص الرمزي والكنائي الذي يكسر رتابة النظم وهو يرفد من خيالٍ سمح ورقراق يزوِّج رؤية القلب لصفاء التجربة الروحية، في مثل نصوص المديح النبوي والغزل والتصوُّف لدى كلّ من عبد القادر العلمي، ومحمد الحراق، وأحمد بن عبد القادر التستاوتي، والشيخ الجيلالي امثيرد، والتهامي المدغري، والحاج أحمد الغرابلي، ومحمد بن سليمان،والفلوس، وابن علي صاحب "الشمعة" ذائعة الصيت.

  كما احتفظت لنا كنانيش الملحون عبر قصائده وسراباته ورباعياته، ومن خلال ما نقلته ذاكرة "الحفَّاظ" من جيل إلى جيل، بذلك الرصيد الهائل من موروثنا الشعبي الغنيّ والجدير بالمكرمة والإعجاب، إلى حدّ أن صارت قصيدة الملحون مصدراً أو رافداً فريداً للكتابة التاريخية، يضيء نزراً لا يستهان به من الوثائق والمراسلات المخزنية وآداب المناقب والنوازل والرحلات والمسكوكات والنقيشات واللقى الأثرية؛ ويكفي أن يطّلع المرء ـ تمثيلاً لا حصراً ـ على "معلمة الملحون" لصاحبها محمد الفاسي، أو على "القصيدة" لعباس الجراري، أو "الملحون المغربي" لأحمد سهوم، ليكتشف قوة انتشار فنّ الملحون، وقيمة الفوائد المبثوثة فيه قلباً وقالباً، واتساعه في الزمان والمكان، إذ لولا ذلك جميعاً لما خرج من تافيلالت لتعمّ روحه الآسرة، فيما بعد، حواضر المغرب الكبرى التي استمزجته بخواصّ طابعها الثقافي والروحي، بما في ذلك حواضر تارودانت، ومراكش، والجديدة، وأسفي، وتطوان، ووجدة، وسلا، ومكناس، وزرهون وفاس. ولكم كان مُؤثِّراً ومتطلَّباً في آن، أن تستلهم الفنون الحديثة، مثل المسرح والتشكيل والسرد والغناء، فنّ الملحون وجماليّاته، وأن يتواصل الاحتفاء الشعائري به في أشكالٍ حميمة تتّشح بأصوات المحبّة التي تقدم إلينا من بعيد. لقد كان الملحون، بتعبير محمد الفاسي، "ديوان المغرب وسجلّ حضارته" بحقّ؛ فلم يتراجع، في أيّ وقت، عن إرضاء ذَوْق المغاربة العامّ وروحهم السّمْحة.

نشرت المقالة بجريدة (القدس العربي) بتاريخ 23 يوليوز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق